من "هنا لندن" إلى "هنا موسكو": العالم يتغيّر
عبد الكافي الصمدمطلع شهر تشرين الأوّل الماضي إفتتحت وكالة الأنباء والإذاعة الدولية الروسية "سبوتنيك"، مكاتبها في منطقة الضبية بالعاصمة بيروت، وباشرت بثّها لتغطية لبنان وسوريا عبر الموجة 93.6 FM، بعد انضمام عدد من الإعلاميين والتقنيين اللبنانيين إلى الإذاعة الوليدة التي يشرف عليها في بيروت ديمتري تاراسوف، فيما تتولى الإدارة من العاصمة الروسية موسكو دارين رهمانوفا.
والإذاعة الروسية المذكورة التي تأسس القسم العربي فيها في 4 شباط 2015 عندما افتتحت مكتباً لها في العاصمة المصرية القاهرة، بدأت البثّ من بيروت على فترتين صباحية ومسائية، متضمنة أخباراً وبرامج وحوارات متنوعة ومقابلات وتحليلات سياسية، إضافة إلى موقع خاص بها على شبكة الإنترنت، إلى جانب موقع الإذاعة الإم التي يتابع قسمها العربي على منصات وسائل التواصل الإجتماعي أكثر من 3 ملايين شخص.
حتى الآن يبدو الخبر عادياً، وينسجم مع توجّه الروس إلى بثّ خدمات إعلامية (تلفزيون، إذاعة، مواقع على شبكة الإنترنت وعلى منصّات وسائل التواصل الإجتماعي، تبثّ وتنشر باللغة العربية)، لكن اللافت في الأمر أنّ إذاعة "سبوتنيك" ستبث على موجة إذاعية مملوكة من إذاعة "صوت كلّ لبنان" كانت موضوعة سابقاً في تصرف القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، الذي توقف عن البثّ في مطلع العام الجاري، وتحديداً في 27 كانون الثاني 2023، أيّ أنّ المستمعين الذين كانوا يلتقطون على مذياعهم صوت المذيع وهو يقول: "هنا لندن"، سيلتقطون على الموجة نفسها مذيعاً آخر وهو يقول: "هنا موسكو".
فالقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية العريقة الذي تأسس قبل 85 عاماً، وتحديداً عام 1938 عشية إندلاع الحرب العالمية الثانية، والذي توقف عن البث إلى جانب 10 أقسام أخرى أبرزها القسمين الفارسي والصيني، جرى تبرير إقفاله بأنّه يأتي في إطار خفض أعم لموازنات خدمة "بي. بي. سي" العالمية، الهدف منه توفير نحو 28,5 مليون جنيه إسترليني ( 32.48 مليون يورو) سنوياً، وحذف نحو 400 وظيفة من بينها 130 موظفاً في القسم العربي.
لكنّ الأمر ليس أبداً على هذا النحو، والأمر لا يتعلق بالنّواحي المالية وخفض موازانات هذا القسم أو ذاك، تمهيداً لإقفاله، بل الأمر يتعدى ذلك إلى النفوذ السّياسي والإقتصادي لهذه الدولة أو تلك في أيّ منطقة أو في العالم، والذي يُترجم حضوراً أو تراجعاً عبر وسائل الإعلام على إختلافها، سواء التقليدية منها أو الحديثة.
فعندما أنشىء القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية قبل أكثر من 8 عقود ونصف، كانت بريطانيا تهيمن على قسم كبير من منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن العالم، إلى درجة وُصفت فيها بأنّها "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشّمس"، وبالتالي كان حضور وسائل إعلام تدور في فلكها تعبيراً عن هذا النفوذ الإستعماري، وهو ما قامت به دول أخرى مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة وغيرها في أماكن نفوذها في العالم، قبل أن يعقبه ضمور هذا النفوذ وتراجعه، ما أدّى تلقائياً إلى تراجع وسائل الإعلام التابعة لهذه الدول والخاضعة لنفوذها وإشرافها المباشر، سواء بتقليص حضورها وتخفيض نفقاتها أو إغلاق أبوابها والإقفال النهائي بعدما انتهى الدور الذي كان مرسوماً لها وتوقم به.
وفق هذه المعادلة يمكن فهم إقفال القسم العربي العربي في هيئة الإذاعة البريطانية بأنّه تعبير عن تراجع حضور ونفوذ بريطانيا في العالم العربي، وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط، إنّما من غير إلغائه بشكل نهائي لأنّه ما يزال حاضراً في بعض المفاصل، برغم وراثة الولايات المتحدة للنفوذ البريطاني في العالم بأشكال وأساليب مختلفة.
ولأنّ الفراغ وفق حركة التاريخ لا يستمر طويلاً، فقد جاءت روسيا لتملأ بعضاً من هذا الفراغ الذي تركته بريطانيا وراءها، وهو ما شهدته السنوات الأخيرة من عودة نفوذ روسيا للمنطقة، لتحاول تعويض غيابها عنها منذ أكثر من 100 سنة، عندما كانت موسكو شريكة ثالثة بإتفاقية سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا لتقاسم النفوذ في المنطقة بعد انهيار السلطنة العثمانية، لكن الثورة البلشفية التي قامت في روسيا عام 1917 وقضت على الإمبراطورية الروسية، جعل حصة موسكو من هذا النفوذ تلغى وتذهب إلى لندن وباريس، قبل أن تعود موسكو اليوم لبسط نفوذها في الشرق الأوسط، وهو نفوذ سرعان ما تمّت ترجمته إعلامياً، بعد الحضور السياسي والعسكري، بحضور لافت لمحطة "آر. تي" التلفزيونية الروسية وبعدها إذاعة "سبوتنيك"، التي تؤكّد عبارة "هنا موسكو"، التي تبثها يومياً، على أنقاض عبارة "هنا لندن"، أنّ العالم تغيّر كثيراً، ولم يعد كما كان عليه قبل زهاء قرن من الزمن.