ديمقراطية القبائل واعادة انتاج العصبيات عبر الانتخابات... حادثة القرقف مثالاً
دكتور طارق مفيد المبيضمما لا شك فيه ان ما نسميه دميقراطية هو نتاج سيرورة تاريخية طويلة نتجت عن تطور المجتمع الصناعي، ومن ثم المدينة في الغرب. هذا التطور وازدحام السكان في مناطق حضرية الزم ايجاد الية لادارة امور تلك الملايين من الناس عبر سلطة تنتخب كل فترة زمنية، ويتنافس عليها بالاجمال حزبان، هما حزب العمال (عمال المصانع) وحزب البرجوازيين (اصحاب المصانع والشركات التجارية)، والذي تمظهر فيما بعد بثنائيات اخرى ولكنها في المضمون تحمل نفس الدلالة، كثنائية الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة الامريكية، والعمال والمحافظين في بريطانيا، واليسار واليمين في عدد من بلدان اوروبا.
والية الانتخاب الديمقراطية سواء للمجالس التمثيلية (البرلمانات)، أو المجالس المحلية (البلديات) ليست سوى وسيلة لاختيار الافضل ضمن ذلك المجتمع لادارة السلطة، ولكن تلك الالية نشأت في مجتمع مدني تغيب عنه العصبية العائلية والقبلية والطائفية.
وبعد مرحلة التحرر التي تلت الحرب العالمية الثانية، استوردت الدول العربية تلك الانظمة وآلياتها دون ان تحدث فيها تغييرات على مستوى المجتمع كتلك التي حدثت في الغرب من نمو الصناعة ومن ثم المدن. بل بقيت في مجتمعاتنا العربية، العشائر عشائراً، والقبائل قبائلاً، والعوائل عوائلاً في المدينة والقرية على حد سواء. فنتج نظام هجين أسوأ من النظام القبلي وبكل تأكيد أسوأ بمراحل من النظام الديمقراطي.
ففي هذا النظام الهجين الذي بامكاننا أن نسميه "ديمقراطية القبائل"، أنشأ صراعاً طائفياً على مستوى اختيار السلطة التشريعية، وصراعاص عائلياً قبلياً على مستوى السلطة المحلية البلدية، ولن نطيل في شرح هذا الصراع، ولكن يكفي ان نقول أنه من حسنات النظام القبلي الصرف انه لا ينشئ ذلك الصراع على السلطة بين القبائل، التي يتفرغ رؤساؤها للملف الاجتماعي، ويقيمون زعامة تدير القبيلة والعشيرة وتحل الخلافات عبر الاعراف المتوارثة لديها، اما مسائل الدولة فتترك للسلطة المركزية التي تعطي زعماء القبائل هامشاً من الحركة الاجتماعية.
اما نظام "ديمقراطية القبائل"، وعلى مستوى السلطات المحلية بالتحديد، ينشئ صراعاً ضمن دائرة جغرافية واحدة بين اكثر من قبيلة او عائلة، او بين العائلة نفسها التي في بعض الاحيان لا يتجاوز عدد ناخبيها الألفي ناخب كما يحصل في كثير من قرى لبنان. هذا الصراع يتمثل في السعي للوصول الى كرسي السلطة المحلية (البلدية) كواجهة زعاماتية، وليس كوظيفة دولتية هدفها تطوير المجتمع وتحسين اداء السلطة المحلية.
وفي هذا الاطار، وعطفاً على الجريمة التي ارتكبت في القرقف، يمكننا فهم تلك الصراعات التي تنشأ في عشرات البلدات اللبنانية، والتي من نتائجها المرئية دون الحاجة الى تعميق بحث، التخلف والفساد والفوضى. التخلف بمعنى انعدام الخدمات، لان رئيس البلدية والاعضاء يصلون بناء لعدد اصوات عائلاتهم وليس بناءً على كفاءتهم، والفساد بمعنى قدرة هؤلاء على السطو ما أمكنهم على كل ما تراه عينهم لأنهم في اغلب الاحيان لن يسألوا في نظام طائفي-قبلي لبناني يمنع المحاسبة، ويستطيع فيه زعيم الطائفة ان يحمي زعيم العائلة، وزعيم العائلة يقدر على تغطية المتورط في الفساد من ابناء عائلته. والفوضى بمعنى ذلك الصراع الذي ينشأ بين ابناء العمومة لنيل الرياسة والزعامة بكل طريقة ممكنة، بما في ذلك القوة التي تتمظهر بمواكب جرارة، واسلحة ظاهرة، وجماعة مذخّرة مستعدة لأن تواجه اي تهديد لمركز الرئاسة بالقنابل والرصاص والعصي والحجارة.
ما حصل في القرقف ليس بدعاً من الحوادث، فقد شهدنا في اكثر من بلدية لبنانية حالات تسلح، دعمتها احزاب سياسية وأدت او كادت تودي بحياة كثيرين، واذا وصل الطرفان الى حالة الحرب وشعروا بأنهم يسيرون الى اشكال كبير، توجهوا نحو التوافق على الصيغة اللبنانية اي تقاسم الكعكعة، فظهرت بدعة مستجدة على مستوى البلدية وهي ان تعطى اول ثلاث سنين لفريق على ان ينال الفريق الاخر السنين الثلاث الاخيرة في رئاسة البلدية، وفي احدى البلديات العكارية تم الاتفاق على ثلاث رؤساء بلديات يتم استبدالهم كل سنتين.ولكم ان تتخيلوا انتاجية هذه البلدية، وحالتها، والخدمات فيها اذا كانت ادارة المجلس على هذا المنوال.
كثيرون من رؤساء البلديات عمدوا الى تغطية ممارساتهم بالعزائم واليافطات التي كانت توقع فواتيرها المليونية باسم البلدية، فيما شوارع الضيعة او البلدة ليس فيها حبة زفت، ولا ضوء انارة، والنفايات تأكل بعضها على جوانب الطرقات.
ما حصل في القرقف، وربما يحصل في بلدات لبناني…