الدكتور طارق مفيد المبيض:قراءة في واقع الفراغ السياسي في الشمال
خاص الموقعلا تكتفي الاحزاب السياسية اللبنانية بدورها الطبيعي بتمثيل الناس وصياغة وجهة نظرهم وتطبيقها على مستوى الدولة. بل تتعدى ذلك الى وظائف هي في الاساس من طبيعة الدولة كحفظ الأمن، وتقديم المساعدات للعوائل الاكثر فقراً، وحل الاشكالات اليومية، وغير ذلك مما هو من صلب عمل مؤسسات الدولة.
وهذا الامر قد يكون طبيعياً بسبب التركيبة الطائفية للبلد، فالمواطن لم يأمن للدولة كجهاز مستقل، بل هو يواجه بشكل مستمر الخوف من ان تسيطر "الطائفة الاخرى" (الاصح حزب الطائفة الاخرى) على الدولة، فيشعر بخطر وجودي، وهذا ما يجعل اللبناني عند كلّ حدث يتمسك "بمكاسب طائفته" في الحكم، ولم يحدث -حتى في انتفاضة السابع عشر من تشرين- ان كان هناك طرح "دولتي" من قبل المجموعات "الثائرة".
والمثال الأبرز على صواب هذا الطرح الآنف الذكر، هي أقضية طرابلس، المنية، الضنية، وعكار، التي تشهد في الفترة الاخيرة النسب الاعلى للفوضى والخروج عن القانون بأشكال متعددة تبدأ بعمليات سلب بقيمة سندويشة شاورما، وتصل الى عمليات تجارة بشر دولية تقدر بعشرات الملايين من الدولارات كانت تحصل تحت الشمس وأمام الأعين. وهذا ما يعيدنا الى الفرضية التي طرحناها وهي أن غياب الاحزاب السياسية عن الواقع اللبناني يساوي بشكل أو بآخر غياباً للدولة. ذلك أن تلك القوى سواءً كانت احزابا ام تيارات، وبغض النظر عن فسادها وطرحها وخطابها السياسي، الا أنها تخشى في جميع الاحيان أن تخسر الراي العام المؤيد لها، وهي تحاول بكل الاشكال نفيَ تهم التقصير عنها، ولربما ان عجزت احياناً عن حل أي ظاهرة، فانها تلجأ الى فضح المتسببين وذلك ابراءً لذمتها التي سيحاسبها عليها الرأي العام عند الانتخابات. وهذه الاحزاب لا تخشى أن تفضح أحداً، لانها محمية بكتل نيابية لها سلطة في مجلسي النواب والوزراء، ومنابر اعلامية أكبر من أكبر مهرّب او عصابة سلب.
تعيدنا تلك القراءة الى غياب الأحزاب السياسية عن الشمال ليس عبر تاريخ لبنان الحديث فذلك حديثٌ يطول، وانما منذ ابتعاد تياري العزم والمستقبل عن المشهد، واعتكافهما عن العمل السياسي برفض خوض تجربة الانتخابات النيابية الاخيرة التي أعادت فرز الاقضية على اساس البيوت السياسية سواءً القديمة او المستجدة، وانحسار تأثير تلك البيوت السياسية ضمن دوائر ضيّقة نسبياً، مقابل هامش كبير من المسؤولية الغائبة التي لا يتحملها أي تيار سياسي بحكم اعتكافه. وللمرء أن يتخيّل الاريحية التي كان يتعاطى بها تجار البشر في بعض المناطق الشمالية، لدرجة أنّهم كانوا يملكون آلة تسويقية منظمة تجوب المقاهي والجلسات العائلية للترويج لرحلة ما، وكان يتولى اشخاصٌ موظفون لتلك المهمة اقناع الناس بجدوى ركوب البحر، ولكم ان تتخيلوا ايضاً الاريحية التي يتعاطى بها النشالون على الطرق العامة في طرابلس دون ان تكون هناك مبادرة لوقف تلك الظاهرة، او متابعة سياسية مع الجهات الامنية لوضعها امام مسؤولياتها، ولا ندوات لتشريح تلك الظاهرة وفهمها ومعالجتها.
اذاً اصبح الشمال دون دولة ودون حزب، ومن المتوقع أن تستمر تلك الفوضى وتتزايد على اعتبار ان الدينامية الاجتماعية التي يخلقها الحزب والتيار السياسي غائبة، تلك الدينامية التي تعتبر روحاً للمجتمع لا يمكن ان يسير دونها. لذلك نحن أمام مرحلة جديدة وصعبة، والشماليون أو على الاصح النخب المجتمعية الشمالية، لا بدّ وان يتحركوا لبناء حزب سياسي من رحم البيئة التي يعيشونها. يحاكي مشاكلهم، ويعبر عن ثقافتهم، ورؤاهم، ويرسم تطلعاتهم، بعيداً عن الشعارات الكبيرة التي رفعها الشماليون عبثاً خلال السبعة عشر سنة الماضية، والتي كانت تريد أن تحارب ايران وسوريا والحوثيين والصين الشعبية، وأن تبني الدولة اللبنانية قبل أن يغرب قمر ليلة الرابع عشر من كل شهر، وترفع في كل مظاهرة شعار القرآن والصليب، وتستميت حتى تتكرم عليها البيئات الاخرى بلقب "عروس الثورة"، ومن ثمّ تستفيقُ على واقع مرير، وهو ان البيئة التي كانت تريد ان تحرر العالم عاجزة عن تحرير نفسها من زمرة نشالين، وعصبة مهربين، والناس في تلك الاحياء التعيسة أسرى فلول تلك الاحزاب التي استخدمت الناس خدمةً لمشاريعها، ولم تعطهم في المقابل ما يستحقون.