في القلمون وبيت الفقس: التعليم من نعمة إلى نقمة
أراح الإضراب المفتوح أساتذة التعليم الأساسي والثانوي في المدارس والثانويات الرسمية من عبء تحمّل بدل نقل مُكلف كانوا يتكبّدونه مقابل كلّ يوم كانوا يتوجّهون فيه من منازلهم إلى أماكن عملهم. أساتذة بلدة القلمون، جنوب طرابلس، هم أكثر من عانوا هذا العبء منذ بدء تدهور سعر الصرف. فهذه البلدة معروف عنها أنّها «منجم» أساتذة التعليم الرسمي، بحيث تكاد لا تخلو أيّ مدرسة أو ثانوية في طرابلس أو أي منطقة شمالية، من وجود أستاذ من القلمون يُدرّس فيها، قبل أن يتحوّل توجّه غالبية أبنائها إلى قطاع التعليم من نعمة إلى نقمة.
أيمن ملّاط، ابن بلدة القلمون، ومدير مدرسة الفضيلة الرسمية للصبيان في منطقة أبي سمراء بطرابلس، يشير إلى هذا الواقع بقوله إنّ «20 أستاذاً في المدرسة من أصل 22 هم من القلمون. وبعدما كان كلّ منهم يأتي إلى المدرسة بسيّارته الخاصّة، باتوا يحضرون بشكل جماعي بسيّاراتهم معتمدين مبدأ المداورة». وتتفاقم المعاناة عندما يكون موقع المدرسة أبعد. أنس ملاط، وهو شقيق أيمن، يُدرّس في مدرسة مشتى حسن الرسمية في عكّار، قرب الحدود السورية. في العام الماضي كان يتكبّد بدل نقل ما لا يقلّ عن 180 ألف ليرة، وهو رقم تضاعف هذا العام، فكان الإضراب المفتوح عامل إنقاذ له.
فائض أساتذة في البلدة الواحدة
عمل الأستاذ في مكان قريب من مكان سكنه «أمر مناسب له» يقول أيمن ملّاط، لكنّه يشير إلى أمرين: الأوّل أنّ القلمون مثلاً «لديها فائض كبير في عدد الأساتذة، يزيد عن حاجة المدارس الرسمية فيها، ما يفرض قيام وزارة التربية بتوزيعهم على مدارس رسمية بعيدة نسبياً أو كليّاً عن منازلهم، وإذا كان نصيب أحدهم في مكان بعيد فإنّ عليه تحمّل التدريس 7 سنوات، مثلما يفرض القانون، قبل قبول طلب نقله إلى مدرسة أخرى أكثر قرباً من منزله». ملّاط الذي أوضح أنّ «أساس الإضراب انطلق من هذا السبب»، يشير إلى وجود إمكانية نسبية لبعض المدارس للاستعانة بالأساتذة المتعاقدين بدل الذين هم في الملاك، «ولكنّ هذا الحل يبقى جزئياً، كما يجعل الطلّاب ضحية في حال غياب المتعاقدين، فهم غير خاضعين لمبدأ المحاسبة إذا تقاعسوا أو غابوا عن مدارسهم، ما يجعل المدارس الرسمية مقبلة على وضع صعب جدّاً في الأيّام المقبلة».
هذا الواقع الصعب الذي يعيشه الأساتذة دفع ملّاط إلى التوضّيح أنّه «لا يوجد اليوم أيّ أستاذ أو موظف رسمي لا يعمل عملاً آخراً، أو يستدين، أو يبيع بعض أغراضه وأملاكه ليؤمّن معيشة عائلته بالحدّ الأدنى. وهو واقع دفع حاملي الإجازات من الشباب الذين لم يدخلوا قطاع التعليم الرسمي بعد، بسبب وقف التوظيف والتعاقد، للتوجّه إلى التعليم الخصوصي في بيوتهم، مقابل أجر يتقاضونه بالدولار الأميركي حصراً».
السيارات مداورة
بلدة بيت الفقس في الضنّية تعيش واقعاً مشابهاً للقلمون، إذ توجّه قسمٌ لافت من أبنائها إلى قطاع التعليم، بحيث لا توجد اليوم مدرسة رسمية في الضنّية إلا وفيها أستاذ من البلدة، وهي ظاهرة لا توجد في مكان آخر في المنطقة، لكنها بدورها تحوّلت من نعمة إلى نقمة بعد تراجع قيمة الرواتب. يوضح محمد عثمان، وهو ناظر في ثانوية بخعون الرسمية المختلطة، أنّ «قرابة 300 أستاذ، موزّعون بين النصف تقريباً في مدارس البلدة، والباقي في مدارس وثانويات الضنّية». ارتفاع تكلفة بدل النقل دفع عثمان إلى اعتماد مبدأ المداورة مع زملائه في البلدة، يذهبون مرّة بسيّارته ومرة بسيّارة سواه، مؤكداً أنّ تكلفة انتقاله شهرياً إلى مركز عمله، بسيّارته الخاصّة، تفوق قيمة راتبه الشهري. وهو أمر دفع كثيرين إلى تقديم طلب استيداع لدى وزارة التربية، ومنهم زميله الذي غادر إلى السعودية للتعليم هناك مقابل راتب قيمته ألفي دولار أميركي شهرياً.
أمّا أساتذة البلدة الذين يُدرّسون في أماكن أبعد، ويستغرق تنقلهم وقتاً أطول ونفقات أكبر بسبب بُعد المسافة، خصوصاً إذا كانت المدارس في بلدات نائية، فقد لجأوا وفق عثمان إلى أمرين: الأول التنقل بواسطة «فان» مقابل أجر يومي، أو أن ينقل أحد الأساتذة زملاءه بسيارته الخاصة مقابل أجر معيّن يتم الاتفاق عليه بينه وبينهم.
إمكانية انتقال عثمان للتدريس في مدارس وثانوية بلدته غير وارد لا منطقياً ولا لوجستياً، وترفضه الوزارة ومديرو المدارس والثانويات، لأنّ «عدد الأساتذة في مدارس التعليم الأساسي والثانوية الرسمية في بيت الفقس كاف»، لافتاً إلى أنّ الإضراب المفتوح «خفّف عنّا مؤقتاً أعباء بدل الانتقال، وتكلفته الباهظة علينا، ولكنّ هذا ليس حلّاً، والحلّ غير موجود على ما يبدو عند وزارة التربية والدولة حتى الآن».