الرائد نيوز: هل سقط مبنى الزاهرية أم أُسقِط؟
الناغي: عمل ممنهج لتخسر طرابلس ذاكرتها التاريخية زائدة الدندشيمساء أمس سقط مبنى مكون من طابقين وغير مسكون في منطقة طرابلس-الزاهرية، واقتصرت الأضرار على الماديات. هرع عناصر الدفاع المدني لرفع الردم، وحضر المعنيون – طبعًا بعد المصيبة- فليس بنيتهم تفاديها من الأول، لكنهم حضروا..
يلقي مسؤول اللوم على البلدية وتلقي البلدية اللوم على النقود غير الموجودة وتدور الدائرة ولا نعرف الحق على أي منهم.
في حديث ل”الرائد نيوز” يقول المهندس المعمار الدكتور وسيم ناغي المتخصص بترميم الأوابد والمواقع التاريخية: “مدينة طرابلس الداخلية والمدرجة حاليًا على لائحة التراث العالمي (المؤشر الأولي) عام 2019 كمدينة يحتمل أن تصنف بالكامل مدينة تاريخية مدرجة على اللائحة النهائية للتراث العالمي بشرط إعداد الملفات اللازمة أسوة بالآلية التي جرت على معرض رشيد كرامي الدولي، الذي أدرج أيضًا على لائحة التراث العالمي والذي يمثل عينة عن تراث الحداثة، حداثة القرن العشرين.
ويوضح الناغي “أننا نتحدث عن مدينة مليئة بالكنوز المعمارية ومرشحة لتكون قطبًا سياحيًا من الطراز الرفيع، لاحتضانها كل هذه المنشآت والمعالم والأبنية والتي هي برأي أهم جهة عالمية تصنف التراث تحتمل وتشتمل على القيمة العالمية الاستثنائية”.
يستذكر الناغي نكبات المدينة فيقول: “للأسف تعرضت المدينة لعدة “نكبات”، أكبرها فيضان نهر أبو علي في الخمسينيات، فبات مشروعًا مدمرًا اسكتمل على باقي المباني التي لم تُدمَّر بفعل الفيضان كحادث مصغر لما حصل حاليًا في درنة-ليبيا نتيجة تراكم السيول والأمطار فانهار أحد الجسور وأدى إلى تلك الكارثة وذهب ضحيتها أكثر من 200 قتيل”.
“لكن المشروع الذي نتج عن الكارثة كان مدمرًا أكثر من الكارثة نفسها فقد انجرفت مئات المعالم من المباني المملوكية وتحول المكان المصغر الذي يشبه البندقية في إيطاليا (أبو علي) إلى منطقة عشوائيات بائسة للأسف”.
ويشير الناغي إلى أن هذه المرحلة شهدت خسارة كبيرة في المباني التاريخية وفككت عدة عناصر من المعالم تم إما بيعها أو تهريبها أو سرقتها. مضيفاً أن الكارثة الثانية كانت فترة الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات وحتى مطلع التسعينيات حيث ظهرت شبكة تجارية مع ازدياد الطلب على العناصر التاريخية والمباني القديمة من (شمسيات حديد، أعمدة التيجان، بلاط ملون، رخام، زخرفات، نوافير مياه)، وراجت تلك التجارة حيث تم تفكيك قطع بالآلاف من مدينة طرابلس.
وإذا تكلمنا اليوم بعد عودة الدولة في التسعينيات وإعادة الانتظام في الحكم فيؤكد الناغي: بدأ حينها الحديث عن التراث المبني في كل المناطق اللبنانية وخاصة في بيروت وللأسف حور هذا التصنيف الذي سمي ب”لائحة الجرد” أي جرد المباني وبات كل تجار العقارات يؤيدون هدم المباني لبناء أخرى شاهقة الارتفاع للاستثمار فخسرت بيروت منذ مطلع التسعينيات إلى الألفية الثالثة آلاف المباني، ويحكى أنه كان فيها أكثر من 5000 مبنى تراثيًا واليوم لم تيبقّ فيها إلا بضع مئات وخاصة بعد انفجار مرفأ بيروت سنة 2020″.
أما عن اليوم وفي طرابلس يصف الناغي الوضع بأنه “منذ عشرات السنين التي خلت رصدنا وتابعنا محاولات لهدم المباني غير الموجودة في المنطقة الأثرية ولكن لها قيمة تراثية والقانون لم يشملها بعد الا بإدراج اسمها على “لائحة الجرد” أي انه في الإفادة العقارية يكون المبنى غير مشتمل على أي قيمة ثقافية وبالتالي يمكن هدمه فيقوم التجار بشرائه وتقديم طلبات ترخيص لهدمه وصدر من عشر سنوات قرار مشترك بين وزارة الأشغال ووزارة الثقافة مفادة أن تعرض أي رخصة هدم على المديرية العامة للآثار بدورها تقبل البلدية أو ترفض وفقًا لرأي المديرية وكان يتم متابعة ذلك في مجلس شورى الدوله والطعن فيه فهو لا يعتبر تصنيفًا وبالتالي غير مدرج على البيانات العقارية لكن كثيرا من التجار لعبوا على هذا الموضوع وقاموا بهدم كثير من المباني التراثيه في طرابلس”.
يشرح الناغي أن “كل عمليات الهدم كانت بهدف التجارة حيث ان المبنى كان يهدم مجانًا لقاء تفكيك ما فيه وبيعه من (درابزين، خشب أرز قطراني) وهذا الشيء مستمر نظرًا لأنه ليس باستطاعة كل الناس أن تذهب إلى مجلس شورى الدولة فقام كثير من مالكي الأبنية القديمة بهدمها ببطء وبشكل ممنهج وهنالك متعهدون متخصصون في المدينة عملهم أن يوحوا للناس أن المبنى انهار من تلقاء ذاته، بينما يقومونهم بتخريبه بشكل ممنهج عن طريق تكسير أرضيته ونزع كل مافيه ليصبح آيلًا للسقوط من تلقاء نفسه نتيجة عواصف أو أمطار أو حتى هزات أرضية خفيفة، ويصل بهم التمادي لبيع كل شيء من بلاط وغيره وهناك صالات تجارية على طريق الاوتوستراد بين بيروت وطرابلس مرورًا بعمشيت والبترون وهي تجارة رائحة وأسعارها غالية”.
وتعقيبًا على سقوط المبنى في الزاهرية يؤكد الناغي أنه” اليوم في طرابلس هناك شيء ممنهج وبتغطية ممن هم موكلون بحماية أمن المدينة وقمع المخالفات وبسبب الأزمة يتم التواطؤ معهم وذلك عبر رشوتهم بالنقود بغض النظر عن أعمال التفكيك لعقارات مهجورة أو لمبانٍ يتمنى أصحابها أن تنهار ليبيعوا الأرض بسهولة”.
هذا الكلام يجب أن يتم ضبطه لأن استمرار ذلك سيؤدي لخسارتنا لكل القيمة الثقافية الموجودة في طرابلس أي ليس فقط المدينة التاريخية بل التل والزاهرية وشارع الثقافة والبوليفار، أبي سمراء، القبة، ضهر المغر… وصولاً للضم والفرز وشارع رياض الصلح أي عمار السبعينيات، لأن التراث المبني في طرابلس يستمر حتى نهاية الستينيات وخاصة بتراث حداثة القرن العشرين ويثبت هذا الكلام إدراج معرض رشيد كرامي الدولي على لائحة التراث العالمي علمًا أنه بُني ما بين عامي 1964- 1975 وبالتالي وذلك دليل على كنوز المدينة لكنها عرضة للزوال بسبب غياب الصيانة، وكثرة الإهمال وغياب التصنيف والحماية من قبل القوانين والتشريعات”.
ويختم الناغي بأن “الأخطر من ذلك غياب الضوابط الأمنية والمحاسبة التي تتجلى عبر غض النظر وعدم محاسبة كل تلك المافيات التي تتعدى على المباني إن كان بطلب من المالك أو لأنها مبانٍ مهجورة لن يطالب بها أحد فتُباع للتجار مقابل حفنة دولارات ستؤدي لخسارة تاريخ مدينة بأكملها وعملية محو ممنهج لذاكرتها وهويتها وهنالك دور كبير على وزارة الثقافة لتضغط على القوى الأمنية لحماية تراث المدينة”.
سقوط مبنى الزاهرية سواءً كان بفعل فاعل أو من حاله سيمهد لكثير من الأبنية الأخرى لتهدم، فكم من بناء قديم ينتظر دوره ليسقط أو يتم إسقاطه؟ وماهو دور البلدية وكل المهندسين الغيورين على تراث مدينتهم؟ كل ذلك برسم من؟ علمًا أننا نتحدث عن أغنى مدينة في لبنان بالتراث المبني الشاهد على أكثر من 1000 عام من تطور العمارة والعمران، بمبانٍ لا تزال قائمة ولاسيما أننا أيضًا مقبلون على سنة 2024 حيث أُعلنت طرابلس عاصمة للثقافة العربية والتي ستحتضن فعاليات في هذا الإطار، فهل سيكون الاحتفال على وقع انهيار المباني التراثية والهدم الممنهج للتراث المبني؟