الديار: معرض رشيد كرامي الدولي: أهملوه حتى قتلوه
دموع الأسمربعد مضي 48 عاما على اكتمال بناء معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس سنة 1975 أدرج مؤخرا، المعرض على لائحة التراث العالمي المهدد بالخطر.
وشكل قرار اليونيسكو انجازا نوعيا للبنان عامة ولمدينة طرابلس خاصة، سيما أن المعرض بمجمل أبنيته وأجنحته يصنف كتحفة هندسية فريدة في نوعها في العالم العربي.
لعل قرار اليونيسكو هو الانجاز الاول الذي يمكن ان يسجل في مدينة طرابلس المهمشة، فالمعرض كان يفترض ان يكون اليوم احد اهم المرافق الحيوية المنتجة لخزينة الدولة ولطرابلس والشمال، فيما لو شهد اهتماما مميزا من الحكومات المتعاقبة وصولا الى اليوم، حيث كان مقررا ان يكون المعرض الدولي الدائم في طرابلس، وهذا هو العنوان الرئيسي للمعرض الذي جرى تجهيله وصولا الى الغاء دوره وتحويله الى مجرد قاعات تقام فيها بعض المعارض، او تحويل باحاته الى مقصد لمحبي رياضة المشي، وسط الاعشاب البرية.
وهو تحول لم يكن في مصلحة طرابلس والشمال وانما ادى الى اهمال المعرض وتهميشه وصولا الى ما اصابه من اهتراء في ابنيته وهياكله الخرسانية، عدا ان تشغيله كان يمكن ان يوفر مئات الوظائف لابناء طرابلس والشمال.
في عام 1962 صمم المهندس المعماري البرازيلي اوسكار نيماير منشآت المعرض على مساحة من ارض طرابلس تقدر بسبعين هكتارا وبوشر التنفيذ عام 1964، لكن العمل توقف فيه سنة 1975 بعد اكتمال معظم المنشآت باستثناء المسرح الاختباري، وأجنحة الدول التي كان يفترض ان تشارك حينذاك في ما يسمى آنذاك المعرض الدولي الدائم في طرابلس.
مضى على المباني ما يقارب ستة عقود من الزمن، وهي من الباطون المسلح الذي ابتكر في مطلع القرن العشرين وتختلف عن الحجر الطبيعي، بحيث ان هذا الباطون عرضة للتفتت والتآكل مع مرور الزمن بسبب عوامل المناخ والرطوبة وغياب الصيانة، حسب رأي المهندس المعماري المختص بالمباني المعمارية وسيم ناغي، الذي يأسف لما آلت اليه منشآت المعرض التي تبعد عن شاطئ البحر حوالى 300 متر مربع، فالمنشآت معرضة للهواء المشبع بالاملاح البحرية والرطوبة، الامر الذي ادى الى تسارع تهالك المعرض، عدا عن تعرضه لتخريب لمدة 23 سنة هي سنوات وجود قوى عسكرية فيه خلال الاحداث اللبنانية ولم يشهد منذ ذلك الحين اي عملية ترميم او تأهيل رغم مشروع ترميم بعض المنشآت سنة 1993 ومشروع سنة 1996 الا ان هذه الاعمال لم ترق الى مستوى تعقيدات المباني بتصاميمها الانشائية مما ادى الى استمرار تدهور الباطون المسلح وصولا الى سنة 2016 عند حصول انهيارات جزئية في سقف المسرح المكشوف والغطاء الكبير من الناحية الجنوبية.
تعاني اليوم معظم المباني من تدهور في سطح الخرسانة، وفي القوس الكبير وفي خزان المياه والجناح اللبناني ومعظم المباني تتآكل حتى مبنى الادارة والجمارك ومبنى السكن الخاص، باستثناء مبنى الاستقبال الذي يستخدم حاليا للادارة ومبنى بيت الضيافة الذي تحول مؤخرا الى منجرة، ومبنى السكن الجماعي الذي تحول الى فندق عرف باسم (كواليتي إن) والمقفل حاليا.
معظم مباني المعرض تشهد تدهورا ويتطلب تدخلا طارئا لتدعيمها وترميمها على مستوى التماسك وتوازن الهيكل الانشائي، ولهذا السبب ادرجت اليونيسكو المباني على لائحة المعالم التراثية المهددة بالخطر.
من يتحمل مسؤولية هذا الاهمال المتمادي لاهم منشآت تراثية في العالم؟
برأي المهندس المعماري المتخصص وسيم ناغي، ان المسؤولية متراكمة ومركبة وبدأت منذ بناء منشآت المعرض في منتصف الستينات، حيث كان يفترض ان تنتهي الاعمال بشكل كامل عام 1967 وهو العام الذي كان مقررا ان يتم فيه افتتاح المعرض ولكن نتيجة التجاذبات السياسية حينذاك والضغوط المتعمدة لعرقلة مسار انشاء وتشييد مباني المعرض لاسباب سياسية منها ما هو متعلق بعدم السماح لفرادة طرابلس بهذه المنشأة الضخمة والتي من شأنها ان تستقطب معظم الحركة التجارية اليها على حساب العاصمة بيروت، ومنها ما كان مرتبطا بالخوف من منافسة معرض طربلس الدولي الدائم لمعرض دمشق الدولي، فتعرضت مسيرة تشييد المنشآت لعقبات شتى، ابرزها ارتبط في التمويل حيث كانت الموازنة المرصودة غير كافية، عدا الفساد حينذاك وهدر الاموال التي كانت مرصودة لبناء المنشآت، واستمر التأخير الى منتصف السبعينيات الى حين اندلاع الحرب الاهلية في نيسان 1975 فتعرضت المنشآت لاعمال تخريب ونهب وسرقات ممنهجة، ادت الى تراجع كبير في مستوى جودة البناء ومستوى قدرة الابنية على مقاومة عوامل المناخ والتصدي لعوامل الزمن. عدا استخدام المباني حينذاك لاغراض عسكرية فيما المباني مشيدة بالاساس لاعمال مدنية ومعارض وفنون وثقافة وادارة.
والاهم من ذلك انه بعد الحرب الاهلية، وقعت الدولة اللبنانية في مأزق غياب وظيفة المعرض الدولية، والاخطر انها وقعت في مأزق التركيز على العاصمة بيروت دون الاهتمام بالعاصمة اللبنانية الثانية طرابلس، فشهدت بيروت انشاء مجمعات ومعارض دولية مثل البيال والفوروم وغيرها.
وكل ذلك على حساب معرض طرابلس الدولي، رغم صدور قرار تضمن حصرية حصول المعارض الدولية سنة 1993 بمعرض طرابلس الدولي غير ان الدولة نسفت هذا القرار بعدم التزامها به، وافسحت المجال لمنافسة غير منصفة مع معرض طرابلس الدولي الذي تراجع دوره وتراجع الاهتمام به، لان الموازنات التي كانت ترصد له هي اقل بكثير مما يجب ان يكفي لصيانته والحفاظ على مبانيه، وتتالت الظروف المعاكسة وغير الملائمة بدءا من حرب العراق الى اغتيال الحريري وحرب تموز وحرب سورية ومعارك طرابلس ومعارك فتح الاسلام ومعارك التبانة وجبل محسن، الى ان وصلنا الى الازمة الاخيرة وكلها لم تكن في مصلحة التركيز على دور المعرض وعلى اولوية صيانة منشآته وتطويره والاهم احيائه فكان التقصير السياسي المتعمد والمقصود، اضافة الى اهمال فعاليات المدينة للمعرض ولا يمكن تجاهل هذه الاسباب حيث لم يكن المعرض اولوية لدى الدولة ولا تملك الحكومات المتعاقبة اية رؤية في اعادة استخدامه وتطويره.
حين تتجول داخل منشآت المعرض تتلمس حجم الاهمال المتعمد لها، وكان حريا ان يكون المعرض مهيأ لدور على مستوى لبنان والمشرق العربي خاصة ان الاسى يكبر عند اعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية بغياب المعرض، فكان يمكن لهذه المنشآت أن تحتضن كل فعاليات هذا الاعلان باعتبار انها تتمتع بطاقة عالية جدا يمكنها ان تحتضن كل الفعاليات الثقافية والفنية والاقتصادية، اضافة الى المساحات الشاسعة لتنظيم كل انواع هذه الفعاليات ولقدرتها الهائلة من الناحية اللوجستية وحركة الدخول والخروج من المعرض ولمواقف السيارات التي تستوعب اكثر من خمسة الاف سيارة عدا الطريق الدائري وقربها من المدينة والاوتوستراد الدولي، كل ذلك يساهم في تنظيم مختلف الفعاليات.
مع الاشارة الى وجود مسرحين مقفلين حاليا لكن بسبب تدهور الخرسانة المسلحة وغياب السلامة العامة يصعب استخدامه، وكذلك الامر في معظم الاماكن التي تحتاج الى صيانة وتأهيلها وتركيبها قبل استخدامها لفعاليات ان كان قبل او خلال او بعد محيطه.
في هذا الصدد ذكر ناشطون طرابلسيون أن اعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية، لا يزال في مرحلة من البطء الشديد في اطلاق لجان التنظيم واعداد المشاريع ونحن على مشارف نهاية العام الجاري وقد دخلنا فصل الصيف، وبدأنا تدريجيا نفقد الامل في أن يكون هناك اي فعالية كما كنا نحلم ونطمح.
سوء طالع المعرض انه في مدينة طرابلس المهملة في الاساس والتي تعاني من اوضاع معيشية متهالكة، ومن بطالة متفشية، وكم ينظر ابناء طرابلس والشمال الى هذه المنشآت الرائعة، ويملؤهم الاسى انه لو كان هذا المعرض قد دخل عالم الحياة، وجرى تشغيله لكان وفر الاف فرص العمل لاهل طرابلس والشمال في ما لو شغلت كل المرافق والمنشآت فيه. خاصة مع احتمال دخول القطاع الخاص لاعادة برمجة استخدام المباني واستثمارها من وظيفة لاخرى.
يكفي بحسب المتابعين، تشغيل الفندق والمسارح وقاعات المعارض، فهناك برأي اوساط اقتصادية طرابلسية 110 الاف متر بناء و28 معلم، بقدرات هائلة من الوظائف من مطاعم ومنشآت ثقافية وفنية وصالات عرض ومتاحف واندية رياضية بما يعني ان هناك باقل تقدير حوالى 3 الاف فرصة عمل.
السؤال المطروح حاليا في الاوساط الشمالية، وهو ملح: هل من بوادر ترميم وتأهيل وتشغيل للمعرض؟
حسب المطلعين على الملف ان هناك بوادر رغم الازمة المالية والاقتصادية التي تعيشها البلاد، وقد جاء تصنيف المعرض على لائحة التراث العالمي لليونيسكو ليضعه تحت الاضواء مجددا، فقد اضاء هذا التصنيف على قيمة المعرض العالمية والاستثنائية، بل ان كل المجتمع الدولي بات معنيا بالحفاظ على هذه المنشآت من حيث اعادة الاعتبار اليه، ولفت نظر الجهات المانحة لاعطاء الاولوية لترميمه.
وكشف مؤخرا عن مشروع رائد قد يكون هو البداية او الانطلاقة يتعلق بمشروع ترميم اولي للمسرح الاختباري والقبة الخرسانية كي تكون جاهزة لتنظيم فاعليات فنية وثقافية وان التمويل اصبح موجودا بما يقارب الخمسين بالمائة، وهو هبة من مجموعة «وان فور ارت» لاعادة تشغيل المسرح ووضعه في الخدمة بشكل مؤقت وبترميم اولي وتجهيزات اولية لوضعه في الخدمة ريثما يأتي المشروع الكبير وهناك مبادرات عديدة من جهات مستعدة لتدعيم الخرسانة المسلحة ورفعه عن لائحة المعالم المهددة بالخطر.
قد يكون التوقيت لتلك البوادر اتت في مرحلة لا تستطيع الدولة وضع المعرض على لائحة اولويات في ظل الازمة الكبيرة التي تشهدها البلاد غير ان تلك الجهات المانحة قد تعيد للمعرض دوره والقه ليكون واحدا من الرافعات الاساسية في انقاذ اقتصاد البلاد، سواء من ناحية فرص العمل والاستثمارات فيما لو تم الاهتمام بالمنشآت، والمحافظة عليها في وجه الظلم والاهمال، وعوامل المناخ.
يعتبر المعرض ذات قيمة معمارية وهندسية فريدة من نوعها، فهو نموذج للنمط المعماري الحديث الذي انطلق في القرن العشرين على مساحة 70 هكتارا. تتألف المنشآت، من المبنى الرئيسي وقاعة عرض ضخمة مسقوفة بطول 750 متر وبعرض 70 مترا، ويستوعب المعرض سنويا مليوني زائر.
منذ اربعة عقود يعاني المعرض من الاهمال ومن اهتراء وتشقق وتساقط حجارة من اسقفه وجدرانه واعمدته بغياب التمويل الكافي لصيانته وغياب السلطات الرسمية المعنية.
استخدم المعرض سابقا كموقع لمهرجان طرابلس السنوي على المسرح المفتوح واقيمت فيه بعض المعارض والانشطة الاقتصادية المحلية.
جذبت هندسته التراثية الجميلة جدا والفريدة شركات الانتاج التلفزيونية لكن الغائب الاكبر نواب طرابلس والحكومات المتعاقبة.
قبيل وفاته العام 2021 نشر المهندس البرازيلي الذي صمم المعرض اوسكار نيماير كتيبا ضمنه ابرز انجازاته الهندسية التي صممها واشرف على تنفيذها فسئل لماذا لم ينشر اي صورة عن معرض رشيد كرامي الدولي في لبنان وهو تحفة فنية فأجاب «لماذا اعرض صورا للموقع الذي اهملوه حتى قتلوه»...