اللواء: القرنة السوداء.. مطامع فيدرالية وأبعاد إستراتيجية
علي شندبوأخيراً، أنهى الجيش اللبناني تحقيقاته في حادثة القرنة السوداء المؤسفة، التي حبست أنفاس اللبنانيين، وكانت ولم تزل محل متابعة الكثير من القنوات الدبلوماسية والسياسية العربية والأجنبية، فضلاً عن تصدّرها المتابعات الإخبارية.
وقد كشف بيان قيادة الجيش استناداً للتحقيقات التي أجرتها مديرية المخابرات "أن مقتل هيثم طوق كان نتيجة إشتباك مسلّح بين طوق ومجموعة مسلحة برفقته من بشرّي، وبين مجموعة من بقاعصفرين" وأن الاشتباك حصل إثر قطع شبّان من بشري قسطلاً للمياه مدّه بعض أهالي بقاعصفرين من إحدى الثلاجات لريّ مزروعاتهم.
ثم قدمت مجموعة مسلحين من بشرّي باتجاه جرد القرنة السوداء بهدف الانتقام لمقتل هيثم طوق، وأطلقت النار بشكل متكرر على وحدات الجيش اللبناني التي اضطرّت للردّ ما أدى لمقتل مالك طوق. لكن المسلّحين لم يرتدعوا إلّا بعدما طاردتهم مروحية عسكرية وأطلقت النار باتجاههم ما دفعهم للإستسلام.
وفيما أفرجت قيادة الجيش عن بعض الموقوفين ومنهم نائب رئيس بلدية بقاعصفرين علي صبرا، فقد أحالت 11 موقوفاً على القضاء المختص بناء على إشارة النائب العام التمييزي.
هذه الوقائع برّدت الرؤوس الحامية قليلاً، سيّما وأن بيان قيادة الجيش طوى بدون شك، فتنة الإغتيال المسمومة برصاص "قنّاص غادر" كما روّج النائب وليم طوق وغيره من فاعليات بشري السياسية والبلدية والإعلامية.
ودفع البطريرك الماروني الى ما يشبه التراجع عن مواقفه الشعبوية والخطيرة والاستباقية للتحقيقات يوم تشييع القتيلين "القاتل معروف وحدودنا معروفة"، وليتحدث بعد اطلاعه على معطيات التحقيق "عن التعاون مع أهالي بشرّي وعائلتي الضحيتين، ولنحافظ على الهدوء والاستقرار بانتظار أن يقول القضاء كلمته، لأنّنا جميعاً نحترم الدولة ومؤسّساتها، ولا سيما القضاء والجيش وسائر الأجهزة الأمنيّة، لأنّها وحدها تسهر على سلامة جميع المواطنين دونما تمييز".
لكن تراجع البطريرك الراعي وتسليمه بدور القضاء والجيش، لم تدفعه لانتظار كلام القضاء حول تبعية القرنة السوداء.
القتل مُدان ومستنكر أيّاً يكن الأمر. وما أصاب آل طوق في بشرّي كان محل استنكار واسع وكبير في لبنان والضنيّة عامة، ومحلّ حداد في بلدة بقاعصفرين خاصة. القتل مُدان، لكن الاستثمار السياسي والطائفي فيه وعليه، مُدان أكثر، سيّما عندما يصدر عن نواب وكهنة وفاعليات وإعلام، لم يتورّعوا بالجملة والمفرّق عن تحويل أنفسهم الى محقّقين وقضاة، فيستبقون التحقيق والأحكام بهدف توجيهها والتأثير على مساراتها.
القتل مُدان ومستنكر، لكنه بات عادة يومية في الأيام اللبنانية الحزينة. عادة يغذيها خطاب سياسي وطائفي ومذهبي تحريضي بامتياز.
كما ويغذيها التحلّل المتمادي في جسد الدولة المتهالك بكل مؤسّساتها، والأهم بفعل الإنهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق الذي يعيشه فقراء لبنان، وخاصة أولئك الجوعى للقمة خبز أو شربة ماء.
على مدى أيام ثقيلة مضت، والضنية تُجلَد بسياط التطاول على سمعتها والتنكيل بها وترذيلها. والآن وبعدما قال الجيش اللبناني كلمته، فإنّ أهل الضنية يطلبون الاعتذار من كل من وجّه اليهم سهام الحقد والتجريح والتطاول على كرامتهم وحقوقهم ووصفهم بالقتلة والقناصين الغادرين، وهو بكل حال تطاول سابق لحادثة القرنة السوداء، من غرف سياسية وطائفية سوداء جلّ همّها واهتمامها منصب على شيطنة الضنية وأبلسة أهلها، واتهامهم بوطنيتهم ووصمهم بالارهاب، وذلك منذ ما أصيبت به الضنية عام 2000 عندما تسلّل اليها (بوصفها ملجأً لإكرام القاصدين والضيوف)، بعض العناصر المتطرّفة من خارجها وحدثت المواجهة المعروفة مع الجيش اللبناني الذي تمكن وباحتضان من فاعليات الضنية وأهلها من القضاء على المتطرفين.
اللواء: القرنة السوداء.. مطامع فيدرالية وأبعاد استراتيجيةلكنّ القابعين في الغرف الطائفية والسياسية السوداء نسوا تسلّل المتطرفين وانصبّ جهدهم وتركّزت ألسنتهم وأبلستهم على وصم الضنيّة بالارهاب أو سرايا حزب الله، وبات أهل الضنيّة يرون أن وراء هذا الحقد المبرمج والدفين والتحريض عليهم، ما هو أبعد من وصمهم بالغدر والافتئات عليهم بالإرهاب والممانعة، رغم أن أهل الضنية ممانعون ومن قبل ولادة الممانعة الجديدة.
بكل حال، تفيد الوقائع والتقارير الأمنية الكثيرة، أنّ الاشتباك الذي قتل فيه هيثم طوق ليس الأوّل من نوعه. بل سبقه إشكالات كثيرة تمّ فيها الإعتداء على رعاة أغنام من بقاعصفرين وجوارها، وأطلق مسلحون قيل أنهم من آل طوق الرصاص على خرافهم وقتلوها.
إذن هذه إشكالات متناسلة من بعضها البعض، تارة عبر قتل الخراف، وطوراً عبر تكسير قساطل المياه المستجرّة من "الثلّاجات" لريّ المزروعات، لكنها هذه المرّة تفاقمت بشكل مأساوي، وقد فاقم مأساويتها استثمار سياسي وطائفي استباقي ورخيص،لأنه يضرب مفاصل العيش الواحد في منطقتين أقرب ما يكونوا لمنطقة واحدة.
واذا ما توقفنا قليلاً عند ردود الفعل الأوليّة على هذه الحادثة، فنجد أن أولياء الدمّ العائلي والسياسي والكنسي في بشرّي، استبقوا التحقيق باتجاه محاولة فرض وقائع نفسيّة وإعلاميّة وسياسيّة منطلقة من التنكيل بسُمعة منطقة الضنية للقول بأنّ القرنة السوداء تابعة لبشرّي، وأن تبعيّة القرنة السوداء لبشرّي تعمّدت بمقتل هيثم ومالك طوق. ما يعني أنّ الإستحواذ على القرنة السوداء، هو بيت قصيد كل هذه الإشكالات الموسمية المفتعلة ومنذ عدة سنوات.
الضنيّة وفاعلياتها الذين أبدوا كل استنكار وتعاطف مع آل طوق وأهل بشرّي عامة، يفصلون تماماً بين الحادثة المؤسفة، وبين تبعيّة القرنة السوداء التي تعود برأيهم للضنية، بشهادة الكثير من الصكوك والخرائط والوثائق التاريخية الرسمية الصادرة عن الدولة اللبنانية وقبلها الانتداب الفرنسي، وقبله السلطنة العثمانية، وصولاً الى عهد المماليك، ما يثبت ويؤكد أنّ القرنة السوداء تقع ضمن النطاق الجغرافي والإداري لمنطقة أو قضاء أو ولاية الضنية.
كما إنّ كتب الجغرافيا في المدارس الرسمية والخاصة في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، كانت تسمّي وتعدّد قمم وأنهار لبنان، ومنها أنّ القرنة السوداء قمّة جبال المكمل تابعة للضنية، وذلك بشهادتي الشخصية كتلميذ، كما وبشهادة أحد أبرز مؤرخي لبنان عصام خليفة الذي قال بالأمس أنّه تعلّم خلال مرحلة "السرتيفيكا" أنّ القرنة السوداء تابعة للضنيّة.
بيت قصيد المسألة إذن، هو تعديل الحدود بين قضاء بشري وقضاء الضنية. إنّها الحدود المنصوص عنها في قوانين إنشاء القضائين كما وفي كل الأقضية والمدن وأحياناً البلدات اللبنانية. وحالياً نسمع عن لوم كبير يوجّه للقضاء وللقاضي العقاري خصوصاً.
لكن، هل أنّ الحدود بين قضائين أو محافظتين أو مدينتين أو حتى بلدتين، والمحدّدة بقوانين أو مراسيم اشتراعية أو قرارات هي من اختصاص القضاء العقاري، أمّ من اختصاص السلطات التي أصدرت المراسيم والقوانين والقرارات إيّاها؟.
فوفقاً للأصول القانون لا يعدّله أو يلغيه إلا قانون، والأمر نفسه بالنسبة للقرارات والمراسيم. ولأنّنا نعلم، فينبغي أن نتعلّم أن تقسيم السودان حصل على خلفية نزاع بين رعاة ومزارعين ألبسوا لاحقاً، لبوساً طائفية. وأن الصراع في إقليم دارفور هو أيضاً بين رعاة ومزارعين ألبسوا لاحقاً، لبوساً قبائلية.
وفوق هذا الصراع تجمّعت عوامل أخرى أدّت الى انفجار سودان ما بعد التقسيم عبر الاحتراب بين قواته المسلحة الرسمية، وهذا ما تعيه جيداً، أو يجب أن تعيه قيادة الجيش اللبناني!
وكما هو معلوم، فإنّ محاولة "فبركة" حدود جديدة لمنطقة بشري، تخلّله قيام مديرية الشؤون الجغرافية باستصدار خريطة مزوّرة تقضم بموجبها نحو خمسة كيلومتر مربع من أراضي الضنية لتسهيل عملية الاستحواذ والسطو على القرنة السوداء، والخريطة المزوّرة هي محل نظر ومراجعة أمام "مجلس شورى الدولة" بناء على شكوى اتحاد بلديات الضنية.
فبركة حدود وتزوير خريطة، يجحظّا ما هو أبعد بكثير من الحرص على مياه الثلّاجات التي تغذّي الينابيع التي تروي المناطق المنتشرة دائرياً من حول القرنة السوداء.
إذ لا يمكن منطقياً التجاسر على ضرب كل عناصر الجيرة والموّدة والعلاقات المشتركة والعيش الواحد بين منطقتي بشرّي والضنية لأجل شربة ماء، أو سقاية شتلة لوبيا أو بندورة، وليس شتلة حشيشة.
مع التنويه بأنّ مشاكل ريّ المزروعات تحدث سنوياً في غالبية القرى ذات الموارد المائية الشحيحة، دون أن ننسى أنّ بعض القرى والبلدات تروي مزروعاتها بواسطة صهاريج المياه.
مع التنويه أيضاً بأنّ الضنية تحتوي على أكبر خزّان مائي في حوض البحر الأبيض المتوسط. لكنّ الاستثمار الرائع جداً، للثروة المائية من قبل وزارات الطاقة وقبلها الموارد المائية والكهربائية جعلها تذهب هدراً في الأودية والسدود الوهمية كسدّ سلعاتا الباسيلي الهادر للأموال والمياه معاً دون حسيب ولا محاسب.
لكن ما الذي يمكن أن تستبطنه محاولة السطو على القرنة السوداء من قبل متنفذي بشرّي ومن وراءهم؟
أمام الإجتياح المعنوي والإعلامي والنفسي الذي تعرّضت له الضنية تدرجياً وتوّج خلال الأيام الماضية بهذه الهجمة الممنهجة والخطيرة، علينا تفحّص المشهد السياسي العام في لبنان، والتوقف عند بعض الأطروحات التي أطلّت وتطل برأسها في أكثر من مكان، ومنها ضرورة التوقف عند الكلام عن "أزمة النظام في لبنان الذي لا نستطيع أن نكمل به" كما سبق وأعلن رئيس حزب القوات سمير جعجع.
كما علينا التوقف عند تنظيرات رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حول أمن المجتمع المسيحي كهربائياً من خلال "معمل سلعاتا"، وعند طروحاته حول اللامركزية المالية، وقبلهم التوقف عند قانون الانتخابات النيابية الحالي، الذي لم يؤمّن تمثيل المسيحيين بقدر تجحيظه لخط غير وهمي حدود الكانتونات الفيدرالية المحتملة.
كما علينا التوقف عند الفيدرالية التي بات لها أحزاباً وقادة رأي ينادون بها بوصفها الحلّ المُرتجى لأزمات لبنان المتناسلة، ويسوّغ أصحاب الفيدرالية دعوتهم إنطلاقاً من "الفيدرالية الحقيقية" التي يجسّدها برأيهم حزب الله جغرافياً ودينوغرافياً وتربوياً وصحياً واجتماعياً ومالياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، ولأجل ذلك غلّف حزب الله فيدراليته بثلاثيته الذهبية "جيش، شعب، مقاومة"، رغم أنّ مسؤوليه يكثرون من الكلام حالياً عن التزامهم العميق والحرفي باتفاق الطائف والدعوة لتطبيقه بحذافيره.
الصورة أخذت تتضح أكثر.
فأمام حالة الإستعصاء والإنسداد السياسي جرّاء استفحال معضلة تكوين جديد للسلطة المتحلّلة بدءاً باستيلاد رئيس جديد للجمهورية ، تبدو دائرة طروحات الفيدرالية والفيدراليين تتسّع، ولم يعُد الكلام عنها مرذولاً أو جريمة يعاقب عليها القانون.
ولهذا الغرض لا بد من تهيئة الميدان الجغرافي الذي على أساسه ستُرسم وترتسم الفيدراليات الجديدة.
ومن هذا المشهد علينا النظر الى مسألة القرنة السوداء ببعد استراتيجي عميق، وأكبر بكثير من مسألة ثلّاجات واستجرار مياه لريّ مزروعات.
القرنة السوداء بهذا المعنى، جدّ ضرورية لضمان حماية وأمن الفيدرالية التي يروّج لها الفيدراليون.
وهي جدّ ضرورية واستراتيجية لرعاة الفيدرالية وداعميها الخارجيين، بوصفها القمّة الأعلى في المنطقة والتي يمكن من خلالها رصد دبيب النمل في أقاصي المغرب العربي، فضلاً عن دواخل المشرق العربي والشرق الأوسط برمته.
رصد تناوب على إجراء أبحاثه وتجاربه بعض المؤسّسات الغربية والخبراء الأجانب، الذين تردّد أنّهم قصدوا خلال السنوات الماضية القرنة السوداء مزوّدين بآلات تكنولوجية لأغراض مختلفة. مع التنويه أنّ باحثاً لبنانياً شمالياً، كان ومنذ ثلاثين عاماً بصدد إنشاء مرصد وتركيب تلسكوب في محلة "إجر القلعة" فوق بلدة بقرصونا ونبع السكر على ارتفاع نحو ألفي متر بما يمكنهم من مشاهدة مدينة فاس المغربية.
فما الذي علينا توقّع ما ستكشفه القرنة السوداء اذا ما نُصبت فيها الرادارات الدائرية الحديثة لمنطقة شديدة الحساسية والتعقيد والتطورات، في ظل مشاريع النفوذ والهيمنة السياسية والطاقوية والاستخبارية والعسكرية التي تتنافس فيها وعليها قوى إقليمية ودولية معروفة.
وللحديث بقية..