الأخبار: السلم الأهلي في «القرنة»… بشري – الضنية: صراع على التاريخ والجغرافيا… والهويّة
لينا فخر الدينكالجمر تحت الرماد، يمكن وصف الأوضاع بين بشري والضنيّة. «قلوب مليانة» واحتقانٌ في النفوس يعود إلى أكثر من 15 عاماً على خلفيّة نزاع على ملكيّة القرنة السوداء. رواية بشري مقابل رواية الضنيّة، فيما الدولة «تتعامى» عن الروايتين، حتّى تحوّل النزاع على «القرنة» إلى صراع دموي طائفي يكاد يطيح بالسلم الأهلي. كيف بدأ النزاع العقاري؟ وهل تدخّل السياسيون لـ«تضخيمه»؟
بيان مديريّة التوجيه في الجيش، السبت، والذي أعلن إحالة 11 موقوفاً إلى القضاء المختص في حادثة مقتل الشاب هيثم طوق، أرخى نوعاً من الهدوء في نفوس أهالي بشري الذين كانوا يتخوّفون من «لفلفة» القضيّة، وإن كان هاجس إفلات القتَلة من العدالة لا يزال يُسيطر عليهم.
على المقلب الآخر، تتمسّك الضنيّة بالهدوء رغم توقيف 10 من أبنائها. «نقلت المطلوبين بسيارتي إلى مديريّة المخابرات»، يقول رئيس رابطة مخاتير الضنيّة، مختار بقاعصفرين عمّار صبره، «لأننا أيضاً نريد الحقيقة».
الجميع يؤكّدون ثقتهم بالدولة وأجهزتها الأمنيّة. رغم ذلك، يبقى النزاع على ملكيّة القرنة السوداء كالجمر تحت الرماد، بعدما تحوّل إلى قضيّة هويّة وانتماء لمنطقتين مختلفتين جغرافياً وطائفياً، تكرر فاعلياتهما العبارة نفسها: «كرامتنا في الحفاظ على القرنة السوداء».
رئيس بلديّة بقاعصفرين بلال زود يؤكّد أنّ حدود بلدته تصل إلى أبعد من القرنة السوداء بـ 3 كيلومترات «ولن نتراجع متراً واحداً». يفتح أحد الشبّان متصفّح غوغل ويقلّب بين الصفحات التي تشير إلى أن القرنة تقع في قضاء الضنيّة، ويعود آخر إلى كتاب الجغرافيا الرسمي الصادر عن «المركز التربوي للبحوث والإنماء» الذي يُعلّم الطلّاب أنّ «القرنة تابعة عقارياً للضنية»، ويسأل: «لماذا لم يطالب أهالي بشري على مدى كلّ هذه السنوات بأرضهم طالما تعود ملكيّتها لهم؟ ولماذا سكتوا عندما كُنا نقيم صلاة الجمعة عند تخومها؟».
في المقابل، يحيل رئيس بلديّة بشري فريدي كيروز إلى «صكوك وحجج وخرائط تمتد إلى زمن المتصرفية ومستندات منذ عام 1905 تؤكّد أنّ كومسيور بشري كان يضمّن مشاع القرنة إلى الرعاة على مدى السنوات التي سبقت إقامة متصرفية جبل لبنان، فضلاً عن مستندات تثبت الحدود بين القضاءين بالحجر». ويقول المختار زياد طوق «إنّنا لم نحتكّ يوماً مع أهالي الضنيّة لأنّهم لم يكونوا يوماً أصحاب الأرض ولم يقوموا حتّى بزيارتها»، ويسأل: «هل يُمكن لصاحب الأرض أن يترك أرضه لغيره لعشرات السنوات؟». ويؤكد الرجلان أنّ «حدود بشري هي مع عشائر عرب الفوّار الموجودين في المنطقة منذ سنوات، ولطالما كان الصليب مرفوعاً فوق القرنة السوداء، فلماذا لم نسمع أصوات أهالي الضنيّة؟».
أصل الصراع
كلّ جهةٍ تحمل خرائطها ومستنداتها لإثبات ملكية القرنة، فيما تتقاعس «الدولة» في حلّ النزاع العقاري حتّى تحوّل صراعاً دموياً. ورغم اختلاف الروايتين، يتفّق الطرفان على أنّ الأزمة بدأت أواخر التسعينيات وتفاقمت بعد 2006، مع تمديد مزارعي الضنيّة خراطيم تحت الأرض لسحب مياه «الثلاجات» (بقع كبيرة لا تذوب فيها الثلوج طوال العام) لري مزروعاتهم، ما رأى فيه «البشرّانية» «اعتداء على البيئة ومخالفة لقرار وزارة البيئة الصادر عام 1998 بتصنيف الأراضي التي تعلو عن 2400 متر كمحميّات طبيعيّة لحماية الثروة الطبيعيّة، إذ إن الخراطيم تؤثر على احتياط المياه الجوفية في الشمال والبقاع وبشري، وصولاً إلى إهدن».
ويقول طوق: «في البداية، طلبوا إذناً بمدّ خرطوم مياه أو اثنين قبل أن نكتشف أنّ أكثر من 14 خرطوماً مُدّت تحت الأرض لري مزروعاتهم، فيما نمتنع نحن عن ذلك رغم قرب الثلاجات من أراضينا».
أهالي الضنية رأوا قي قرار وزارة البيئة «استهدافاً» لهم، وخصوصاً أنه لا يُنفّذ في معظم المناطق، أضف إلى أنّ «سحب مياه الثلاجات لا يؤثر على المياه الجوفيّة». والأهم هو أنّ عدم استغلال مياه الثلاجات يعني ضرب الموسم الزراعي في جرد النجاص في خراج بقاعصفرين والذي يعتاش منه أكثر من 50% من أبناء البلدة.
بدأ الخلاف على سحب مياه الثلاجات، بعدما لزّمت وزارة الطاقة والمياه، مرتين، متعهدين إقامة بركة لتجميع المياه لري مزروعات أبناء الضنيّة ضمن «المشروع الأخضر»، يقول المختار إن خطأ تقنياً في المرة الأولى حال دون تجميع المياه، «وفي المرة الثانية قبض المتعهّد ولم ينفّذ». لم تتوقف مساعي الرئيس عمر كرامي، ومن بعده النائب فيصل كرامي، لإقامة بركة مياه، قبل أن يصطدم المشروع بقرارات قضائيّة من جانب أهالي بشري ويُشرّع الباب أمام نزاعٍ عقاري.
بالنسبة إلى الطرفين، الدولة تقاعست عن القيام بواجبها وهي تتحمّل مسؤولية إراقة الدّماء في القرنة السوداء، فيما أهمل القضاء القضيّة بسبب تدخّلات سياسية!
الاستقواء بالسياسة؟
يقول أبناء الضنيّة إنّ أهالي بشري لم يُطالبوا في الماضي بما يسمّونه اليوم «حقاً مشروعاً» في ملكيّة القرنة قبل أن يخرج رئيس حزب القوات اللبنانيّة من زنزانته. ويتّهمون تيّار المستقبل بمهادنة «القوات» وعدم حسم الأمر لمصلحة «أصحاب الحق». وينقل بعضهم عن النائب السابق سامي فتفت أنّ جلساته مع النائبة ستريدا جعجع لحسم القضيّة علّقت لأنّ «الأخيرة كذبت عليّ». فيما يجاهر بعض أهالي بقاعصفرين بأن المستقبل «باع» القضيّة أصلاً. وهو ما ينفيه محسوبون على المستقبل لافتين إلى أنّهم شاركوا في أكثر من جلسة لحسم القضيّة، لكن القوات كانت تُناور.
ويروي نائب رئيس البلدية علي صبره الذي كان موقوفاً في قضيّة هيثم ومالك طوق أنّ البلديات المتعاقبة في بشري كانت متعاونة، وكان «القواتيون» سابقاً متعاونين في ضبط الخلافات، «وكنا نلتقي دورياً في مقر مديريّة مخابرات الجيش لحل الخلافات التي كانت تقع من جراء قطع خراطيم المياه. ولكن في الأعوام الثلاثة الأخيرة تفاقمت الخلافات ووصلت إلى حد إطلاق النّار على الماشية. ولطالما دعونا إلى حسم الخلاف العقاري قبل سقوط الدماء». الأمر نفسه يشير اليه مختار بقاعصفرين عمّار صبره. إذ إنّ الأمور كانت تُحلّ دوماً «على الطريقة العشائريّة»، وكانت بلديّة بشري تتنصّل من عمليّات قطع خراطيم المياه وتتهم طابوراً خامساً بها، قبل أن تنقلب الأمور رأساً على عقب خلال السنوات الأخيرة. لذلك، يعتقد أبناء الضنيّة أن الأزمة كانت «تُطبخ» على نارٍ هادئة لفرض «سلطة أمر واقع» على القرنة «تمنعنا من التصرّف بأرضنا ومياهنا». في السنتين الأخيرتين، صارت بلديّة بشري تُجاهر برفضها لمدّ الخراطيم وتُغطي من يقومون بسحبها عبر الـ«ATV»، بعدما كانت سابقاً تتهم «طابوراً خامساً»، فضلاً عن تكرر الاعتداءات على الرعاة وقتل أكثر من 300 رأس من الماشية.
يُحمّل كثيرون في الضنيّة مسؤولية «التحريض» إلى النائب ويليام طوق الذي يُريد كسب شعبيّة على «ظهر» القرنة السوداء. ويقولون إنه أقرّ في إحدى الجلسات مع كرامي، بوجود مهندسين ومحامين، بنيّته في إقامة مرصد فلكي على قمة القرنة السوداء بتمويل من شركة فرنسيّة. ويستدلّون على ذلك بالسقف العالي لكلام طوق في الأحداث الأخيرة، فيما جاء تصعيد «القوات» لكي «يلحّقوا حالهم».
يحزّ في نفوس أبناء الضنيّة عدم وجود مرجعيّة سياسيّة «في ظهرهم»، ويدركون أن وجود الرئيس سعد الحريري على رأس الحكومة لم يكن ليحل الأزمة، إذ إنّه كان «سيُساير» القوات اللبنانية تماماً كما سايَر الرئيس نجيب ميقاتي على حسابهم حينما تراجع عن إحياء لجنة القرنة السوداء. والعتب يشمل نائبَي المنطقة (جهاد وعبد العزيز الصمد) اللذين غابا عن القضيّة رغم مضبطة الاتّهام التي وُجّهت إليهما. وحده كرامي تجرأ على فتح معركة الدّفاع عن منطقة ارتبطت عائلته بها منذ أيّام جدّه عبد الحميد، بعدما تحوّلت بقاعصفرين إلى مصيف تاريخي لآل كرامي. إلا أن آخرين يُدافعون عن «الصمدَين» على اعتبار أنّ كرامي وبلديّة بقاعصفرين «أخطأوا حينما أصدروا مواقف إعلاميّة بدا معها كأنّ أبناء المنطقة يُريدون الدّفاع عن أنفسهم لرد تهمة المسؤولية عن مقتل هيثم طوق»، فيما كان جهاد وعبد العزيز الصمد «على حق» عندما لزما الصمت «لأن لا علاقة لنا بالحادثة». مع ذلك، يخشى الجميع في الضنية أن «يضمّ» أهالي بشري القرنة السوداء باعتبار أنّهم «ضحايا الدم»، ما يعطيهم أفضلية أمام القضاء الذي سيحكم لمصلحة «الضحيّة»!
صمت الصمد وظهور كرامي لا يُغيّران في واقع الأمر شيئاً لدى أهالي بشري، إذ يرون أنهما «المحرّضان الأساسيّان» للقضيّة، كما أنّ حزب الله هو المستفيد الأوّل من وقوع الفتنة المسيحيّة – السنيّة، في حين أنّ ما يعني أبناء الضنيّة هو تأمين موردٍ للمياه. وهو ما يشير إليه رئيس بلديّة بشري الذي يُشدّد على أنّ القضيّة لا تُحل إلا عبر تأمين موردٍ للمياه لأهالي الضنيّة يغنيهم عن استخدام الثلاجات في القرنة السوداء، وحسم الخلاف العقاري قضائياً، ومحاكمة المشاركين والمحرضين على مقتل هيثم ومالك طوق.
القضاء بين بشري وبقاعصفرين: «الحدّ» بـ«الحدّ»
مع تفاقم الخلافات بين بشري وبقاعصفرين على ملكيّة القرنة السوداء واستغلال الموارد المائيّة فيها، احتكم الطرفان إلى القضاء الذي أقفل على المستندات في أدراجه من دون أن يحسم النزاع، القانون نفسه يحكم بين الجهتين، إلا أنّ لكل منهما وجهة نظره: «البشرانيون» يؤكّدون أنّ النزاع قضائي بحت، و«الضناويون» يرون فيه نزاعاً إدارياً.
بحسب رئيس بلديّة بقاعصفرين، لا صلاحيّة للقاضي العقاري للنظر في القضيّة ولا يمكن تعديل الخرائط المُعتمدة إلا بقانونٍ يصدر عن المجلس النيابي. وهو ما يؤكده وكيل الدّفاع عن بلديّة بقاعصفرين المحامي مازن إسطنبولي. يبدأ حديثه من افتقار جرد الضنيّة لمياه الري، ما حتّم اللجوء إلى إنشاء بركة اصطناعيّة بتمويل أوروبي وفق المعايير العالميّة للحفاظ على البيئة. بدأ العمل عام 2020 «قبل أن نصطدم بدعوى من بلديّة بشري أمام قاضي العجلة الذي أصدر قراراً بـ«وقف الأعمال لخضوع هذه الأراضي للنطاق الإقليمي لبلديّة بشري»، علماً أنّ «البركة تبعد أكثر من 3 كيلومترات عن القرنة السوداء لجهة قضاء المنية – الضنية وداخل النطاق العقاري لبلدية بقاعصفرين». لم تنفع المراجعة التي قدّمتها الأخيرة، إذ أكد القاضي على قراره السابق لتتحوّل القضيّة إلى محكمة الاستئناف الناظرة في قضايا الأمور المستعجلة في طرابلس، «من دون أن تصدر حتى اليوم قرارها لأسبابٍ لا نعلمها». يؤكد إسطنبولي أن رئيس الغرفة القاضي أسامة حداد أصدر قراراً دعم موقف الضنية عارضه القاضيان الآخران فشطب القرار، مذكّراً بأنّ وزير المالية في حينه علي حسن خليل باعتباره سلطة الوصاية أحال الملف إلى القاضي العقاري الإضافي لـ «تبيان وتحديد حدود المنطقة الفاصلة بين قضاءي بشري والمنية – الضنيّة».
يفرد محامي بلديّة بقاعصفرين خرائط ومستندات، ويشرح بإسهاب عن خريطة تحمل رقم 85 صادرة في الستينيات، تُظهر القرنة السوداء ضمن حدود «قضاء طرابلس» في حينه، إضافة إلى خرائط صادرة عن مديريّة الشؤون الجغرافيّة في الجيش، منها خريطة لبنان الإدارية الصادرة بالألوان عام 2004، وتضع القرنة ضمن حدود الضنيّة. يرفض إسطنبولي بيان مديريّة الشؤون الجغرافية التي تنصّلت من خرائطها بحجة أنها خرائط عسكريّة خاصة بنقاط الانتشار الأمني، متسائلاً: «إذا كانت كذلك، لماذا عدّلت المديريّة خرائطها بعدما ألحقت بلدة دير بلا بقضاء البترون بدلاً من قضاء بشري، بحسب قانونٍ صادر عن مجلس النواب؟». ويشدد إسطنبولي على أن الدستور يمنع تعديل الحدود إلا بموجب قانون، ويروي عن «تاريخ» من «تزوير» الخرائط، وهو ما يؤكده مهندسون في الضنيّة لاحظوا منذ نحو 10 سنوات ظهور خرائط جديدة خلافاً للقانون، صادرة عن مديريّة الشؤون الجغرافيّة، تلحق القرنة السوداء بقضاء بشري. لذلك كله، تقدّمت بلدية بقاعصفرين بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة لإبطال الخرائط غير الصحيحة الصادرة عن مديريّة الشؤون الجغرافية والقاضية بتحوير النقاط الحدوديّة بين قضاءي بشري والمنية – الضنية، من دون أن يصدر الشورى أي قرار بعد. ويؤكد إسطنبولي أن «لا صلاحيّة للقاضي العقاري بتحديد وتبيان الحدود الفاصلة بين الأقضية، خصوصاً أنّ النزاع يشمل أكثر من 10 كيلومترات. مع ذلك، قدّمنا الخرائط والمستندات التي تُثبت الحدود الجغرافية بين القضاءين منذ إنشاء لبنان الكبير».
بشري: نحتكم للقضاء
يلفت رئيس بلديّة بشري فريدي كيروز، من جهته، إلى «أنّنا نتابع الموضوع قضائياً ولا نريد أن نتعدى على أراضي أحد ولا نقبل أن يتعدّى علينا أحد»، مشدّداً على «أنّنا نرضى بما يصدر عن القضاء».
الوكيل القانوني للبلديّة المحامي عبدو لحود ينفي أن «تكون الدولة قد حدّدت الحدود بمراسيم جمهورية، وبالتالي أن يكون الخلاف بين البلديتين إدارياً، إذ إنّ الفرنسيين قبل جلائهم عن لبنان أتمّوا 30% من مهمّة مسح الأراضي اللبنانيّة قبل أن تكمل الدولة اللبنانية عملها بمسح 15%، فيما هناك 55% من الأراضي غير الممسوحة، من بينها القرنة السوداء ومحيطها». ويضيف: «لو كان الخلاف إدارياً، لكان القاضي العقاري رد الطلب لقضيّة مسبقة (أي سبق للدولة أن حسمتها)»، مشدّداً على «ضرورة ترك الأمر للقاضي العقاري بالتعاون مع مديريّة الشؤون العقاريّة ولجنة الخبراء للقيام بدورهم وحسم القضيّة».
ويسرد لحود المسار القضائي الذي انتهجته بلدية بشري منذ أن لاحظت عام 2019 أعمال حفر لبركة في سهل سمارة في محيط القرنة السوداء من دون احترام لقرار وزارة البيئة الذي يصنّف الأراضي التي تعلو عن 2400 متر بأنّها محميّات طبيعيّة. «حينها، راسلنا وزارة البيئة لإطلاعها على الأمر فطلبت دراسة أثر بيئي قبل أن تُصدر قرارها بوقف أعمال الحفر. كذلك أرسلنا عريضة إلى قاضي الأمور المستعجلة في بشري فأوقف تنفيذ أعمال الحفر قبل أن تعترض بلديّة بقاعصفرين ثم تستأنف، ليُحال الملف إلى محكمة الاستئناف في طرابلس، ويصدر محافظ الشمال قراراً بوقف الأعمال في محيط القرنة السوداء «حفاظاً على الوضع الأمني».
رغم ذلك، «بقيت الأمور تتفاقم بعدما أعطت وزارة الزراعة في عهد الوزير غازي زعيتر إذناً، بواسطة المشروع الأخضر، لإنشاء بركة لتجميع مياه في المنطقة، لافتاً إلى أنّ البلدية سارعت إلى تقديم مراجعة إداريّة إلى مجلس شورى الدولة الذي أصدر قراره بوقف الأعمال. كما تقدّمت بمراجعة إدارية مماثلة بعدما غيّرت بلديّة بقاعصفرين اسمها إلى «بلدية بقاعصفرين – القرنة السوداء»، ليُصدر قراره بالإبطال.
يؤكد لحود أنّ «القاضي العقاري هو الوحيد المخوّل بحسم هذه القضيّة وبترسيم الحدود وتحديدها». وعن المسار القضائي، يُشير إلى أنّ القاضي العقاري «أنشأ لجنة ترسيم منذ عامين تضم 4 مسّاحين (اثنان مسيحيان وآخران مسلمان). طالبتنا اللجنة بمستندات قدّمناها عبر لوائح لثلاث مرات متتالية لتسهيل عمل المساحين، من دون أن يكون هناك أي تطوّر في عملها».
وعن المستندات التي قدّمتها الجهة المقابلة، يقول: «لم تُقدّم بقاعصفرين أيّ مستندات باستثناء خرائط مديريّة الشؤون الجغرافية التي قالت أخيراً إنّها خرائط عسكريّة للانتشار الأمني ولا تعني تحديد الحدود».
المسيحيّون في الضنيّة
رغم الأكثريّة السنيّة التي تطغى على قضاء المنية – الضنية الذي يضمّ نحو 51 بلدة، إلا أنّ القضاء يضمّ نحو 20% من الناخبين من المسيحيين (غالبيتهم من الروم، وأقليّة مارونيّة) يعيشون في بلدات مسيحيّة وأخرى مختلطة. ويتركّز وجود الموارنة في ما يُسمّى «قرى المزارع» (كرم المهر، بحيوتة، عِمار، زغتغرين، كهف الملول) بين جبل الأربعين في جرد الضنيّة ومزيارة في قضاء زغرتا. فيما يتوزّع الروم على بلدات القضاء كحقل العزيمة وعصيموت والخرنوب والحوارة وكفر حبو وسير الضنيّة وعاصون ومراح السفيرة وبطرماز. تؤكد فاعليات بقاعصفرين أنّ العلاقة مع القرى المسيحيّة «ممتازة، ولم يحصل يوماً أي احتكاك حتّى في عز الحرب الأهليّة، ولم يحدث أي تهجير».
وعن الخلاف بين قضاءَي بشري والضنيّة على القرنة السوداء، يقول هؤلاء إنّ «مسيحيّي الضنيّة في العلن يؤكّدون أنّ القرنة لنا، كما أنّ عدداً من فاعليّات ومخاتير القرى المسيحيّة وقّعوا عريضة قدّمتها بقاعصفرين تطالب بملكيّة القرنة السوداء». غير أن مختار بلدة كهف الملول ماريو أيوب يُشدّد على «أنّنا لم نوقّع على أيّ عريضة، وخصوصاً أنّ رأينا لا يُغيّر في مسار الأمور باعتبار أنّ النزاع قضائي عقاري وعلى الدولة أن تحسمه، منعاً لإراقة الدماء وتكرار مثل هذه الحوادث المستنكرة».
«قرنة سُهدي»
يرفض أبناء بلدة بشرّي تسمية أعلى قمّة في جبل المكمل بالقرنة السوداء، باعتبار أنّ تسميتها الأصليّة ترتبط بتاريخهم وهويّتهم قبل أن «يضرب» الانتداب الفرنسي اسمها الحقيقي. يصرّ هؤلاء على أنّها «قرنة الشهداء»، وتحديداً «قرنة سُهدي» باللغة السريانية، والتي استُشهد دفاعاً عنها أكثر من 350 راهباً من رفاق شفيع الموارنة مار مارون. ويعود «البشرّانية» إلى التاريخ، حينما كان أجدادهم يقومون بحراسة الحدود، وأطلقوا على أنفسهم لقب «المردة» لردّ غزو المماليك عن أراضيهم.
في بشرّي… حزب الله هو المحرّض؟
يشدّد مختار بشري زياد طوق على أنّ «ما يربطنا بأهالي الضنيّة علاقات اجتماعيّة ممتازة وحُسن جوار وشراكات في بيْع الفواكه والخضار». وهو ما يقوله أيضاً رئيس بلدية بشري فريدي كيروز، لافتاً إلى أنّ «وجع أهالي الضنيّة من وجعنا، لكننا نُخاصم الخارجين عن القانون وتحديداً أولئك الذين قتلوا هيثم (طوق)». من هو، إذاً، «الخصم» الذي يُريد «أكل القرنة»؟ هنا يبدو واضحاً أن السردية القواتية تفعل فعلها حتى لدى من هم غير محسوبين على القوات اللبنانية.
يؤكد كيروز وطوق، كما العديد من أبناء منطقتهما، أنّ «مجموعات مُسلّحة» في الضنيّة تُريد «ضرب هذا التاريخ وإشعال نار الفتنة بين القضاءين». يُمسك أحد شبّان بشري بهاتفه ليؤكّد وجود أكثر من 4 دشم ومتاريس تقيمها هذه «المجموعات» عند تخوم القرنة السوداء. يقول كيروز: «لا أريد الدخول في السياسة ولكن ما أعرفه هو أن أهالي بشري يؤكّدون في العامين الأخيرين أنّهم يصادفون مجموعات تحمل أسلحة متوسّطة تتمركز في القرنة السوداء، وسبق أن أبلغت مديريّة المخابرات بهذا الأمر». فيما يشير مخايل طوق، شقيق الضحية مالك، إلى «أنّنا لسنا الدولة لنُفصح عن هويّات القتلة بل ننتظر التحقيق، تعبنا من القيام بدور الدولة على مدى 30 عاماً، فيما الدولة تتقاعس عن تبيان حدودنا ومنع التعديات على أرضنا».
السائد، بعد الأحداث الأخيرة بين البشرانيين أنّ «الحزب» (حزب الله) يُريد خلق فتنة بين السنّة والمسيحيين، وقد نجح في ذلك بعدما «جنّد» النائبين فيصل كرامي وجهاد الصمد لمشروعه، إذ إنّ «نائبي محور الممانعة (كرامي والصمد) هما المحرّكان الأساسيان والمعنويان لقضيّة القرنة السوداء». ويعود بعضهم إلى خطابٍ للصمد يقول فيه إنّ «الكعبة إذا أزيحت من مكانها في حدا يزيح القرنة السوداء من مكانها (في الضنيّة)»، للإشارة إلى أنّ «الصمد واحد ممن عمدوا إلى غسل أدمغة أبناء الضنيّة لإقناعهم بفتح معركة القرنة السوداء»، ومثله أيضاً كرامي.
لا أحد مقتنع بأن ناس المقلب الآخر، في الضنية، هم أيضاً مقتنعون بأن ملكيّة القرنة تعود إليهم. بالنسبة إلى كثيرين، هنا، «حزب الله» أقنع بعضهم بذلك بسبب حاجتهم إلى المياه وسخّر لهم الإمكانات لتحويل القرنة السوداء إلى «مركزٍ للمجموعات المسلّحة»، واستهداف أبناء بشري.
«الاستغلال السياسي» لقضيّة القرنة السوداء يرسم هواجس عن إمكانيّة إفلات المجرمين من العقاب، إذ إنّها «ليست المرة الأولى التي يتدخّل فيها السياسيون لإطلاق الموقوفين». مع ذلك، يؤكّد كيروز وطوق أنّ «ثقتهما بالجيش والدولة مطلقة، ونحن نراقب ما يجري»، و«إلا سيكون لنا كلام آخر»، على ما يقول طوق. فيما يشدّد كيروز على أنّ «المهم ليس فقط توقيف القاتلين ومحاكمتهم بشفافيّة، وما نُريده هو محاسبة المحرّضين، الذين أوصلوا الأمر إلى وقوع قتيلين».
الضنيّة: أين حزب الله؟
يضحك رئيس بلديّة بقاعصفرين بلال زود من اتهامات مسؤولي بلدة بشري وأهاليها بوجود مجموعات مسلّحة من الضنيّة أقامت دشماً ومتاريس عند تخوم القرنة السوداء، ويقول: «لا شيء في القرنة سوى الحجال والذُّباب، فلمَن نُقيم الدشم والمتاريس؟»، مؤكداً أن هذه الدشم والمتاريس أقامها صيادو الحجال. ما يقوله أبناء بشري «محض افتراءات ومغالطات وتشويه للسمعة». والأمر نفسه يؤكده نائب رئيس البلديّة علي صبره الذي أطلقت سراحه مخابرات الجيش، أخيراً، إذ «لا وجود في القرنة السوداء إلا لرعاة المواشي، والحديث عن مسلّحين افتراء».
مختار بقاعصفرين، رئيس رابطة مخاتير الضنيّة، عمّار صبره، يُشدّد على أنّ «أبناء الضنيّة لا يمتلكون قناصة أو سلاحاً ثقيلاً عكس ما يتم ترويجه»، مضيفاً: «نحن مزارعون فقراء، ولم نحمل السلاح حتّى خلال الحرب الأهليّة، وهذا القضاء الوحيد تقريباً الذي لم يشهد اقتتالاً طائفياً، رغم أن نحو 20% من أبناء الضنية مسيحيون». ويضيف: «أبناء الضنيّة مسالمون، وحتى الخليّة التي سُمّيت باسمهم (خلية الضنيّة) عام 2000 لم تضمّ أياً من أبنائهم»، فضلاً عن أن الإشكالات في القضاء تبدو بسيطة مقارنةً مع بقيّة المناطق.
بالنسبة إلى صبره، استبق أبناء بشري التحقيقات واتهموا أهالي بقاعصفرين بالحادثة رغم أن «لا خلافات بين القضاءين، بل على العكس. العلاقة تاريخية بيننا، وأجدادنا كانوا شركاء أجدادهم في الماشية ويتقاسمون الزوّادة نفسها».
ما يقوله صبره يُكرّره أبناء الضنيّة الذين يُذكّرون بعدد الأصوات التي كان ينالها جبران طوق وبعده ستريدا جعجع عندما كان القضاءان في محافظةٍ واحدة، وكذلك إبان «شهر العسل» السياسي بين الرئيس سعد الحريري والقوات اللبنانية، ما انعكس تقارباً سياسياً واجتماعياً أكبر للمنطقتين.
النائبان فيصل كرامي وجهاد الصمد، اللذان يصفهما أبناء بشري بأنهما «تابعان لمحور الممانعة»، يؤكد أبناء الضنيّة «تمايزهما عن حزب الله». يُشدد نائب رئيس البلدية على أن كرامي لطالما سعى إلى حل الموضوع «وكان يُحذّرنا من حصول أي إشكال، لأن لا مصلحة لنا بوقوع حوادث أمنية، بل جلّ همّه كان تنفيذ مشروع بحيرة تجميع مياه لريّ المزروعات وتأمين المياه للماشية».
المحسوبون على تيّار المستقبل ينفون أيضاً أن يكون لـ«الحزب» وجود في المنطقة، خصوصاً أن الالتزام السياسيّ في المنطقة يُعدّ قليلاً مقارنةً بـ«الأهواء السياسيّة». رئيس البلدية السابق علي كنج، القريب من أجواء تيّار المستقبل، يُشدّد هو الآخر أن «لا وجود لحزب الله أو لسرايا المقاومة في المنطقة»، مضيفاً: «نحن في الأصل لا نحب حزب الله ولا نستسيغ وجوده بيننا»، مشيراً إلى أنّها «اتهامات باطلة. ولو كان الحزب موجوداً في المنطقة لكان على الأقل مدّنا بالمال والسلاح، فيما نحن فعلياً عُزّل».