حادثة القرنة السّوداء: شياطين الفتنة تستيقظ
عبد الكافي الصمدلم يكن في حسبان أحد أن يمرّ صيف هذا العام بلا وقوع إشكالات في منطقة القرنة السّوداء بين أهالي الضنّية وأهالي بشري، في إطار النزاع التاريخي بين الطرفين، إذ كانت السّنوات الأخيرة تشهد حوادث متكرّرة بين الطرفين، خصوصاً من قبل أهالي بشري، من إطلاق رصاص إلى قتل رؤوس ماشية إلى قطع نباريش مياه، وكانت الأجهزة الأمنية في كلّ مرّة، وتحديداً الجيش اللبناني، تعالج الأزمة عن طريق الإحتواء، من غير نزع فتيلها.
وبالفعل، إستُهل الصيف الحالي بإعتداء أشخاص على قطيع ماشية في القرنة السّوداء تعود ملكيته لأحد الرعاة من أبناء الضنّية، من خلال إطلاق النّار على رؤوسهم، وذلك يوم 6 حزيران الماضي، ما دفع الجيش بعد ذلك بأيّام قليلة، وتحديداً في 12 حزيران إلى إعلان منطقة القرنة السّوداء منطقة تدريبات عسكرية خاصة محذّراً المواطنين من الإقتراب منها، في خطوة بدت وكأنها إستباقية لمنع تكرار الإشكالات في المنطقة كلّ صيف.
لكنّ هذه الخطوة الإحترازية لم تمنع وقوع المحظور في الأول من شهر تمّوز الجاري، عندما استيقظت بشري، ومعها الضنّية وكلّ لبنان، على فاجعة مقتل أحد أبنائها، هيثم طوق، قبل أن يتبعه بعد ساعات الإعلان عن وفاة شخص آخر من بشري، مالك طوق، وسقوط عدد من الجرحى خلال تصادم بين شبّان من بشري مع قوة من الجيش اللبناني بعد رفضهم الإمتثال لها.
ومع أنّ ظروف حادثة مقتل هيثم طوق بقيت غامضة ولم تُكشف ملابساتها بعد، كما أنّ التحقيقات حولها ما تزال جارية، فإنّ أجواء تحريض واسعة جرت في بشري قامت بها قوى سياسية ودينية إستغلت الحادثة لأهدافها ما جعل الأرض ملتهبة إلى حدّ أنّ البعض أعلن حمل السّلاح ونزل إلى الشّارع مبدياً إستعداده للردّ وأخذ الثأر، حتى قبل أن تتبين هوية القاتل، وجعل شياطين الفتنة تستيقظ دفعة واحدة وكأنّ محرّكها واحد.
وكان لافتاً أنّ هكذا تصرّفات ومواقف لم تصدر عن أصحاب رؤوس حامية، إنّما صدرت من شخصيات يفترض بها أن تتصف بالحكمة وعدم التسرّع.
ففي هذا المجال كان مفاجئاً ما قاله البطريرك الماروني بشارة الراعي خلال صلاة الجنازة التي ترأسها قبل دفن جثتي هيثم ومالك طوق، من أنّ "حدودنا معروفة والقاتل معروف"، في إشارة منه إلى النزاع حول ملكية القرنة السّوداء بين الضنّية وبشري، وهو نزاع ما يزال في عهدة الجيش اللبناني والقضاء المختص، كما أن تفاصيل الجريمة لم تكشف بعد بانتظار إنتهاء التحقيقات، ما يجعل البطريرك يبدو مستبقاً كلّ الأحكام ومطلقا مواقف شعبوية من أجل إرضاء شارعه.
وبرغم أنّ حادثة مماثلة وقعت في عكّار قبل أيّام قليلة من حادثة القموعة، عندما عُثر على جثة إبن بلدة عكّار العتيقة أحمد درويش، في 26 حزيران الماضي، جثة هامدة في محيط منطقة القموعة المتنازع عليها مع بلدة فنيدق المجاورة، فإنّ هذه الحادثة لم تتجاوز تداعيتها حدود البلدتين، عكس حادثة القرنة السّوداء التي كادت تؤدي، بفعل التسعير الطائفي والتحريض السياسي، إلى فتنة طائفية بالغة الخطورة، نظراً لما واكبها ولحقها بها من دعوات مشبوهة إلى حمل السّلاح والأخذ بالثأر، والإصطدام مع الجيش اللبناني، وصولاً إلى حدود إحياء الدعوات إلى الفدرلة والتقسيم، على قاعدة "لهم لبنانهم ولنا لبناننا"، بينما كان يفترض بالقوى السياسية والدينية في بشري والبطريركية المارونية أنّ ترد بالتي هي أحسن على موجات التعزية والتضامن مع أهالي الضحيتين وأهالي بشري التي وجهتها قوى سياسية ودينية إسلامية، وأن تلاقيها في منتصف الطريق، من خلال الإحتكام إلى القوانين المرعية الإجراء وليس شريعة الغاب، وتسليم القضية إلى الجيش اللبناني الذي يحظى بثقة ورضى جميع الأطراف، درءاً للفتنة ووأدها في مهدها.