البلديات من زمن التذاكي الطبيعي إلى زمن الذكاء الإصطناعي
صبا ورورفي ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة،شكل الذكاء الاصطناعي (AI) و هو مجموعة من النظم و البرمجيات التي تمكن الآلة من محاكاة الذكاء البشري و التعلم و البيانات و اتخاذ قرارات شبه مستقلة، ثورة رقمية شاملة غيرت ملامح العديد من القطاعات إبتداءً من الاقتصاد و التعليم وصولاً الى الأمن و الصحة.
و من بين هذه القطاعات، بدأت البلديات تتجه نحو استثمار هذه التكنولوجيا لتحديث خدماتها و تحسين كفاءتها و الاستجابة بشكل أذكى لحاجات المواطنين. على الرغم من أن هذا التطور يبدو أكثر وضوحاً في الدول المتقدمة إلا أن الحاجة إلى مواكبته أصبحت مُلحّة حتى في الدول التي تواجه تحديات بنيوية مثل لبنان.
تلعب البلديات في الدول المتقدمة دوراً محورياً في تنظيم الحياة اليومية للمواطنين من إدارة النفايات إلى الإنارة و تنظيم البناء و تخطيط الطرق و توفير الخدمات الاجتماعية، إلا أنه في لبنان لا بد لنا أن نستحضر "البلدية" التي أضحت في أيامنا هذه شبحاً لا لون لها، كما أنه نسي الكثير من اللبنانيين و بالأخص الشباب منهم، دور البلديات في نظامنا الديمقراطي و ما هي صلاحياتها و مهامها و ما الهدف الذي من أجله وجدت البلدية في المدن و البلدات و القرى، حتى أننا لم نعد ننتبه لوجودها إلا عند اصدار مراسيم التمديد للمجالس البلدية، تلك المراسيم التي حولت هذه الأخيرة إلى مجرد تذكار و حولت المواطن في بلدته و قريته إلى متخلّف يئِن تحت وطأة نفاياته و أفاته و مشكلاته.
و في هذا السياق تبرز البلديات اللبنانية كمستويات حوكمة محلية تحتاج إلى أدوات فعالة و حديثة لتحسين أداءها و خدماتها في ظل ضغوط مالية و ادارية و إنمائية متراكمة. تنبع أهمية الموضوع من كونه يلامس صلب الحوكمة المحلية في لبنان، في ظل مطالب متزايدة بتحديث الإدارات وتحسين الخدمات، خصوصًا في ظل الأزمات المتلاحقة التي يعيشها البلد. كما يسلّط الضوء على كيفية الاستفادة من التكنولوجيا لتقليص الهدر، تعزيز الشفافية، وإشراك المواطنين في إدارة الشأن العام.
و من هنا يُطرح التساؤل حول إمكانية البلديات اللبنانية ، بكل ما تحمله من تعقيد إداري و محدودية موارد الاستفادة فعلاً من الذكاء الاصطناعي؟ أم أن هذه التقنية لا تزال بعيدة عن واقع الإدارة المحلية؟
تعد البلديات في لبنان حجر الزاوية في إدارة الشؤون المحلية و أداة أساسية في تحقيق التنمية المستدامة والاستجابة لحاجات المواطنين اليومية.
فقد نصت المادة 49 من قانون البلديات على أن كل عمل ينطوي على طابع عام أو منفعة عامة هو من اختصاص المجلس البلدي ، وتشمل هذه الأعمال مجالات الأشغال، المياه، التربية، الثقافة والرياضة.
إلا أن التجربة اللبنانية في العقود الماضية أظهرت ضعفاً بنيوياً في الأداء البلدي، ويعود في جوهره إلى النمط التقليدي في ممارسة السلطة المحلية. حيث تتركز جهود العديد من المجالس البلدية فقط على المشاريع ''الظاهرة'' كالطرقات والبنى التحتية، بينما تُهمل مجالات الخدمات الإلكترونية، التخطيط الاستراتيجي أو غيرها من الأولويات الحديثة.
السبب الأعمق لهذا الخلل يبدأ من المرحلة الانتخابية نفسها حيث تطغى الاعتبارات العائلية على معايير الكفاءة و الاختصاص، فبدلاً من أن يتم انتخاب أعضاء يمتلكون خبرات في الإدارة، الهندسة أو الاقتصاد، نرى مجالس بلدية تتحول في كثير من الأحيان إلى مجالس عائلية أو فئوية بعيدة عن معايير الحكم الرشيد. لاسيما في المناطق النائية كالقرى والبلدات، حيث لا يوجد برامج دائمة لتدريب المجالس البلدية المنتخبة مما يؤثر سلباً على جودة العمل البلدي ويؤدي إلى ضعف التخطيط والمراقبة.
إضافةً إلى أنه من الناحية المالية، تعاني البلديات من نقص حاد في الموارد، إذ تعتمد بشكل أساسي على أموال ''الصندوق البلدي المستقل'' الذي يتأخر في التحويلات ويعاني من غياب الشفافية في آليات التوزيع. كما أن معظم البلديات لا تملك مصادر دخل محلية مستدامة، ما يعيق قدراتها على تمويل مشاريع تنموية أو حتى تقديم خدمات أساسية.
ولا يقل الأمر سوءاً عنه التجاذبات السياسية والطائفية التي تلعب دوراً سلبياً في العمل البلدي، حيث تتحول بعض المجالس إلى أدوات للنفوذ السياسي بدل أن تكون منصات لخدمة المجتمع المحلي.
لهذا فإن إصلاح العمل البلدي في لبنان لا يمكن أن يتم دون معالجة هذه الثغرات . ففي ظل هذه الأزمات المالية والإدارية الخانقة التي يمر بها لبنان، تعود اللامركزية الإدارية إلى الواجهة كخيار ضروري لإعادة بناء الدولة من القاعدة، وذلك من خلال تفعيل دور البلديات كمحرك أساسي للتنمية المحلية.
ومع هذا التطور التكنولوجي المتسارع وبروز الذكاء الاصطناعي (AI) كأداة واعدة لإحداث تحول نوعي في أداء البلديات اللبنانية، يقتضي على البلديات أو وزارة الداخلية أن تقوم:
أولاً، وعبر استخدام حساسات ذكية وأنظمة تحليل بيانات متقدمة، يمكن للبلديات مراقبة مستوى امتلاء حاويات النفايات، واكتشاف التسربات في شبكات المياه، أو رصد أعطال الطرق والإنارة العامة يُمكِّن تحسين إدارة الخدمات العامة وهي أحد أبرز المجالات التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدث فيها فرقاً حقيقياً حيث أن هذه الآليات تتيح استجابة فورية دون الحاجة لانتظار الشكاوى ما يوفر الجهد ويقلل من الهدر في الموارد.
ثانياً، معالجة ضعف الرقابة وغياب الشفافية عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التحليل المالي والرقابة الإلكترونية، حيث أن هذه الأدوات تتيح رصد التجاوزات في الإنفاق، كشف التلاعب في العقود وتحليل الموازنة بطريقة مرئية وبسيطة للمواطنين. فهذا يعزز من ثقة المواطن بالإدارة المحلية، ويشكل خطوة نحو حوكمة رشيدة ومسؤولة.
ثالثاً، نظراً للنمو السكاني الغير متوازن، والتخطيط العمراني العشوائي في لبنان، ينبغي لكل بلدية أن تعتمد على نظم المعلومات الجغرافية(GIS)،كأداة لرصد الأبنية، حالة الطرق، شبكات المياه، وأعداد السكان. هذه البيانات تشكل قاعدة ضرورية لتحديد الحاجات الأساسية للمنطقة، وتخطيط المشاريع المستقبلية بشكل أكثر دقة وفعالية، خصوصاً في مجالات الخدمات الأساسية كالصرف الصحي، الكهرباء، الصحة والتعليم.
وأخيراً، للاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي، لابد من تطوير البنية التحتية الرقمية للبلديات، وتوفير التدريب المناسب للكوادر، بالإضافة إلى تشجيع شراكات استراتيجية مع الجامعات والشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا. كما ينبغي على وزارة الداخلية والبلديات أن تقود عملية إصلاح تشريعي يعيد تعريف دور البلدية كجهة تنموية وخدماتية فاعلة.
ومن الضروري في هذا السياق أن تمتلك كل بلدية في لبنان موقعاً الكترونياً حديثاً يضم جداول المكلفين بالرسوم البلدية، القرارات البلدية، التعليمات العامة والمناسبات المحلية. فإتاحة هذه المعلومات للمواطنين تعزز من الشفافية والمساءلة، وتكرّس ثقافة المشاركة في الشأن العام.
بإمكان البلديات اللبنانية الاستفادة من النماذج الأوروبية الناجحة حيث طورت العديد من البلديات مشاريع استراتيجية في النقل العام، المواقف والسكن الشعبي دون الاعتماد الكامل على الدولة. ففي لبنان تمتلك البلديات ملايين الأمتار من الأراضي غير المستثمرة،ألم يأن الأوان لتوظيف هذه المساحات في مشاريع سكنية وتجارية ورياضيات، لتوفير دخلاً إضافياً للبلدية، وخدمة الفئات الأكثر حاجة في المجتمع؟
إن الانتقال من بلديات تقليدية إلى بلديات ذكية ليس ترفاً في ظل التحديات الراهنة، بل ضرورة وطنية. فإدخال الذكاء الاصطناعي في العمل البلدي يفتح الباب أمام فرص غير محدودة لتحسين الأداء، تعزيز الشفافية، وتقديم خدمات نوعية للمواطنين. ومع وجود الإرادة السياسية والتشريعية، يمكن للبلديات أن تكون النموذج الأنجح في إعادة بناء الدولة والثقة بين المواطن والمؤسسات العامة.