الأخبار _ شروط إقراض مؤلمة: التقشّف من أجل خدمة الدين
17 شباط 2025

الأخبار _ شروط إقراض مؤلمة: التقشّف من أجل خدمة الدين

ماهر سلامة

من أبرز شروط صندوق النقد الدولي لإقراض الدول وفقاً لبرامجه، والتي تندرج ضمن ما يسمّى «الوصفة الجاهزة» اتباع سياسات التقشف عبر خفض الإنفاق إلى أقصى حدّ بمعزل عن انعكاسات ذلك على حاجات الشعب وعلى دور الإنفاق في تحريك الاستثمار، إضافة إلى الضغط على الحكومات من أجل زيادة إيراداتها عبر زيادة الضرائب على الاستهلاك والرسوم، فضلاً عن تحقيق استدامة الدين التي تُغرق أي بلد في المزيد من الديون الخارجية وتسخّر الاقتصاد في خدمة هذا الدين وأكلافه الباهظة. كذلك، من الشروط رفع يد الدولة عن الاقتصاد بشكل تام عبر تحرير حساب رأس المال وتعويم سعر الصرف وغيرها من الأمور.

هذا هو الحال في لبنان، أيضاً. ففي نيسان 2022 توصّلت الحكومة اللبنانية إلى صيغة مشروع مع ممثلي صندوق النقد الدولي تُرجمت إلى «اتفاق على مستوى الموظفين»، أي اتفاق يمهّد لتنفيذ الشروط المسبقة التي تكون بدورها معبراً للاتفاق النهائي مع الصندوق.

تضمّن هذا الاتفاق، منح الحكومة إمكانية الوصول إلى نحو ثلاثة مليارات دولار على مدى أربع سنوات، وكانت شروط الصندوق على النحو الآتي:

- موافقة مجلس الوزراء على إستراتيجية إعادة هيكلة المصارف والحدّ من اللجوء إلى الموارد العامة.
- صدور قانون من البرلمان لمعالجة أوضاع المصارف وإعادة التوازن المالي.
- البدء بعملية تقييم لأكبر 14 مصرفاً بمساعدة خارجية.
- إقرار تعديلات على قانون السرية المصرفية ليتماشى مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد وإزالة العوائق أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والإشراف عليه بشكل فعّال، وإدارة الضرائب، فضلاً عن الكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول.
- إنجاز التدقيق بوضع الأصول الأجنبية لمصرف لبنان.
- موافقة مجلس الوزراء على إستراتيجية متوسطة الأجل للمالية العامة وإعادة هيكلة الديون.
- إقرار قانون موازنة 2022.
- قيام مصرف لبنان بتوحيد سعر الصرف.

بعض هذه الشروط أصبح بلا قيمة، مثل إقرار الموازنة وتوحيد سعر الصرف (الذي حصل في سياق طبيعي مع استثناءات بسيطة)، إضافة إلى قانون الكابيتال كونترول الذي أصبح شرطاً تكميلياً لبرنامج العلاقة مع الصندوق الذي يريد ضمان استعادة رأس ماله. ومن الواضح أن شروط صندوق النقد، الواضحة عبر مفاوضات البرنامج مع لبنان، ركّزت بشكل كبير على الوضع المصرفي. هي تشمل وضع قانون تسوية أوضاع المصارف وتقييم وضعها والتدقيق بوضع الأصول الأجنبية لمصرف لبنان، وصولاً إلى الحثّ على إعادة هيكلة القطاع. عملياً، بعد مضي ثلاث سنوات على الانهيار، وجدت الحكومة اللبنانية نفسها، قد طبقت معظم الشروط التقشفية للصندوق. من رفع الدعم عن جميع السلع التي دُعمت أسعارها مع بداية الأزمة، إضافة إلى تعديل تسعيرة الكهرباء ورفع الدعم الضمني عنها، وكل ذلك من دون وضع أي شبكة أمان للأسر التي أصبح وضعها المعيشي تحت خط الفقر.

طبّقت الحكومة معظم الشروط التقشّفية للصندوق بعد ثلاث سنوات على انفجار الأزمة


ليس لدى الصندوق معايير محدّدة للقطاع المصرفي، ولا سيما معايير رقمية مثل عدد المصارف وحجم رساميلها قياساً على الناتج المحلي الإجمالي أو مؤشرات مرتبطة بعدد السكان والقدرات الاستهلاكية وسواها، لكن ممثلي الصندوق الذين أتوا إلى لبنان، تحدّثوا بوضوح عن حجم القطاع الكبير على لبنان، وعن ضرورة إرساء قطاع مصرفي صحّي يعتمد على السوق لإنتاج الأرباح لا على توظيف الأموال لدى الدولة ومصرف لبنان...

غير أنه ثمة الكثير من المؤشرات والمعايير التي يفرضها الصندوق عبر برامج الإقراض وأبرزها «استدامة الدين» التي تتضمن أن يكون الدين العام في البلد المقترض أدنى من 100% من ناتجه المحلي، وأن يكون مسار الدين ضمن المدى المتوسط مستداماً بمعنى أنه لا يتخطى هذا المعيار. يرى صندوق النقد أنّ أي نسبة دين عام إلى الناتج المحلي تتخطى 60%، وخصوصاً في الدول النامية، هي نسبة خطيرة. ويندرج من معيار استدامة الدين، مؤشرات أخرى، مثل الفائض الأولي في العمليات المالية للدولة، إضافة إلى سقف للعجز المالي لا يتجاوز الـ 3% من الناتج المحلي، وألا يكون العجز في الحساب الجاري أكثر من 4% من الناتج المحلي. وينظر الصندوق إلى الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي في إطار مدى كفايتها لتغطية الاستيراد، إذ يفضّل أن تغطي 3 ــ 4 أشهر من الاستيراد بالحدّ الأدنى.

كل ما سبق يتحدث عن الشروط وانعكاساتها المباشرة مثل زيادة الضرائب على الاستهلاك، التي تسهم في خفض العجز في الميزان التجاري عبر تقويض الاستهلاك، وانعكاساتها على القدرة الشرائية للأسر، أو مثل رفع الدعم وانعكاساته على الأسعار. لكن هناك انعكاسات غير مباشرة.

فتقويض دور الدولة، يخلق فراغاً معيناً. على سبيل المثال، وهنا مثال ليس مأخوذاً من الواقع اللبناني، إذا كان أحد الشروط هو خفض حجم العاملين في القطاع العام، وقامت الدولة بصرف عدد من الأساتذة الرسميين، ستصبح المدارس الرسمية غير قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من الطلاب، هذا الأمر سيخلق فراغاً تعليمياً تأخذ جزءاً منه مدارس القطاع الخاص، وهكذا يكون دور الدولة التعليمي قد تضاءل في حين ازدادت حصة القطاع الخاص. وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على أي قطاع من قطاعات الخدمات التي تدخل فيها الدولة.

ما هو الهدف من الدخول في اتفاق مع صندوق النقد؟ الإجابة الدائمة هي، أن الاتفاق هو عبارة عن «ختم» يفتح المجال للبلد المستهدف من الاتفاق أن يعود إلى السوق العالمية، وهو ما يُترجم عبر انخفاض «المخاطر» وتحفيز الرساميل «للاستثمار» في البلد. لكن السؤال يبقى: ما نوع هذه الاستثمارات؟ وفي أي مجالات ستأتي؟ من الصعب القول إن هذه الاستثمارات ستأتي إلى القطاعات المنتجة، مثل الصناعة والزراعة، لأن الأرضية الحالية لا تشجّع هذا النوع من الاستثمارات في لبنان. أما القطاعات الأسهل للاستثمار، مثل القطاع العقاري، الذي يمكن الدخول إليه والخروج منه بسهولة، فهو لا يمثّل قيمة مضافة مرتفعة، ولا سيما في مجال المضاربات على أسعار الأراضي إذا كان يمكن اعتبار أن المباني هي عبارة عن صناعة.

وكذلك الحال في القطاع المصرفي (في حال إصلاحه وإعادة الثقة به)، إذ إن الأموال تأتي إلى المصارف بهدف الاستفادة من أسعار الفائدة التي يدفعها المجتمع من المال العام الذي يجب أخذه من الرسوم والضرائب. والمشكلة أن عودة الاستثمار في هذه القطاعات، يعني إحياء «اقتصاد ما قبل الأزمة» الذي كان هشّاً جدّاً ويعتمد بشكل كبير على التدفقات الخارجية لتمويل الاستهلاك المحلي، وقد أوصل الاقتصاد (مع الأخطاء التي مورست في إدارته) إلى الانفجار الحتمي. بهذا المعنى، إن الاتفاق مع صندوق النقد ليس هدفاً بحدّ ذاته، بل قد يكون وسيلة مكمّلة لعملية إعادة تقييم كبيرة للنموذج الاقتصادي الموجود، وتحديد النموذج الاقتصادي المستهدف، وهو ما يحتاج إلى إجراءات أعمق من شروط الصندوق المؤلمة.

Add to Home screen
This app can be installed in your home screen