الأخبار _ هل حان وقت التفاوض الحقيقي مع صندوق النقد؟
03 شباط 2025

الأخبار _ هل حان وقت التفاوض الحقيقي مع صندوق النقد؟

ماهر سلامة

من أهم القضايا التي على الحكومة المرتقبة أن تتعامل معها هي العلاقة مع صندوق النقد الدولي. فمسار المفاوضات بشأن الاتفاق مع الصندوق على برنامج يتضمن إعادة هيكلة الدين والمصارف، لم يسفر إلى الآن عن أي نتيجة حاسمة ونهائية تفتح الأفق لخروج لبنان من مستنقع الانهيار. إذ إن نتائج المفاوضات انتهت إلى اتفاق أولي لم يُترجم إلى اتفاق نهائي، وذلك كان ناجماً عن انقسام مجموعات السلطة الحاكمة بين مؤيّد للاتفاق وبين رافض له. صحيح أن الكل يُجمع على أنه لا يمكن الاتفاق مع الدائنين الأجانب من دون «ختم الصندوق»، إلا أن أي علاقة مع الصندوق تفترض، ضمنياً، إعادة صياغة توجهات اقتصادية ومالية ومصرفية قد لا تتناسب مع من هم في السلطة، سواء كانوا يعملون في المجال السياسي والمؤسسات الرسمية، أم هم مصرفيون ولديهم رغبات في إعادة إنتاج آليات عمل تشبه ما كان عليه الحال سابقاً، لذا يتهرّبون من هذه العلاقة ويمانعونها. هذا التحدّي ماثل أمام العهد الجديد: ما هي رؤية الحكومة المقبلة للعلاقة مع صندوق النقد؟

المسألة لا ترتبط بالشقّ التقني من العلاقة مع الصندوق، بل في الشق السياساتي. فالصندوق كما يُعرف عنه، لديه طريقة عمل موحّدة مع كل البلدان ضمن هوامش للتفاوض متصلة بخصوصيات كل بلد. فهو من جهة يسعى إلى السيطرة على البلدان التي يدخل إليها من خلال معاييره التي يُشار إليها غالباً بأنها «وصفة الصندوق»، علماً أن هذه السيطرة هي أميركية على شاكلة حصّتها الأكبر في الصندوق، وهو من جهة ثانية مقرض دولي لا يمكن التعامل مع الأسواق الدولية من دون الاستحصال على موافقته.

التحدي يكمن في شروط الصندوق وهذه الشروط هي نتيجة عملية تفاوض، إما أن تكون جادّة يكون فيها موقف لبناني صلب أو أن تكون عملية شكلية، يرتمي فيها لبنان في أحضان النموذج الغربي للبلدان النامية

شروط الصندوق ومعاييره قد لا تتطابق مع ما ترغب فيه قوى السلطة في لبنان، لكنها مضطرة إلى أن تلجأ إليه بشكل واضح. فهل ستكون الحكومة مستعدة للتفاوض الحقيقي مع الصندوق على الشروط التي سيفرضها مقابل إقراض لبنان؟ أم إنها ستتعاطى من منطلق الطرف الضعيف الذي يقبل بكل شروط الصندوق مقابل دعم مادي محدود؟

التحدي الأكبر

المشهد الحالي يوحي بأن الحكومة قد تواجه تحدياً في تحقيق التوازن بين المصالح الشعبية من جهة، المتعلقة بشكل أساسي بتحسين الظروف المعيشية وعدم زيادة العبء الضريبي، وصولاً إلى قضيّة الودائع غير المحلولة بعد، وبين شروط الصندوق الصارمة من جهة أخرى. وقد أصبحت شروط الصندوق معروفة، إذ تشدّد دائماً على ضرورة اعتماد سياسات تقشّفية (يمارسها لبنان منذ مدة طويلة)، وإصلاحات هيكلية كشرط أساسي للحصول على أي تمويل. بحيث تُدخل الاقتصاد المستهدف في مسار ينتهي بتفكيك دور الدولة في الاقتصاد، ونقله إلى القطاع الخاص عبر تحرير القيود المتمثّلة بالقوانين التي تُنظّم الحركة الاقتصادية. شروط غالباً ما تُترجم مزيداً من الضغوط على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، على الصعيد المباشر، ولكن انعكاساتها غير المباشرة تنتهي بتوسّع هوّة اللامساواة. وهنا تكمن العقدة الأساسية، في التناقض الطبيعي بين المصلحة الشعبية وشروط صندوق النقد التي عادةً ما تهتم بتصحيح الأرقام على الورق من دون النظر إلى ما يحصل فعلياً في الاقتصاد.
شروط الصندوق ليست «مقدّسة» بالكامل، بل هي تتأتى من التفاوض. المفاوض من جهة لبنان يسعى إلى تحقيق المصلحة الوطنية، وهي مصلحة لم يتفق عليها بعد، والمفاوض من جهة الصندوق يسعى، مثل أي مصرف، إلى فرض شروطه على المقترض. لذا، فإما أن تكون المفاوضات جادّة أو أن تكون عملية شكلية تدفع لبنان إلى «وصاية» الصندوق، مثل عدد كبير من الدول التي ارتمت في أحضانه قسراً أو برضاها. لذا، هل تستطيع الحكومة كسر النمط التاريخي من الخضوع للخارج والذي يتجسّد اليوم عبر المؤسّسات الدولية مثل صندوق النقد؟. هل سيكون التعامل مع الصندوق باعتباره سبيلاً للعودة إلى المنظومة المالية العالمية، وخصوصاً أن لبنان يحتاج إلى شرعية معينة للعودة إلى هذه الأسواق بعد التخلّف عن دفع سندات اليوروبوندز الخاصة به وهو ما أخرجه من سوق الاستدانة العالمية، أم أنه أحد السبل للاستفادة من المقرض الدولي نحو إعادة بناء اقتصاد يستقطب الاستثمارات في القطاعات التي يتفق على أنها تفي بالمصلحة الوطنية؟

تناقضات أخرى
إضافة إلى التناقض الذي يخلقه التعامل مع صندوق النقد، بين شروط هذا الأخير والمصالح الشعبية، تُظهر الحالة اللبنانية تناقضات داخلية من نوع آخر. فهناك طرف إضافي في المعادلة، لديه قدرة على الضغط السياسي، ولديه مصالح خاصّة به، وهذا الطرف هو القطاع المصرفي. وقد عارض هذا الأخير الطروحات المتعلقة بإعادة هيكلة القطاع، وهو أحد شروط صندوق النقد للدخول في اتفاق مع لبنان. الصندوق متمسّك بتراتبية توزيع الخسائر التي تشطب رساميل المصارف وأملاكها أولاً، ثم تنتقل نحو الدولة والودائع. وبالتالي، فإن إعادة الهيكلة تعني تحميل المصارف جزءاً مهماً من مسؤولية الخسائر التي حلّت بالودائع، وهو ما يضع بعض المصارف في مواجهة الإفلاس وبعضها الآخر في مواجهة الدمج مع مصارف أخرى، إضافة إلى أفكار مثل إشراك بعض المودعين الكبار في أسهم المصارف، والتي طُرحت في خطط تسوية أوضاع المصارف التي وضعتها الحكومة الأخيرة.
الأزمة اللبنانية ليست اقتصادية فقط؛ إنها أزمة نظام شامل، حيث تتشابك السياسة والاقتصاد في شبكة معقدة من المصالح. وهذا ما يجعل أي حديث عن إصلاح حقيقي مرهوناً بوجود رؤية واضحة وموحدة. وهنا يظهر البُعد الخارجي، الذي يلعب دوراً كبيراً في هذا السياق، إذ إن الضغط الغربي في لبنان سيكون موجهاً دائماً لجعل البلد اقتصادياً في الحضن الغربي، وأحد سبل الضغط هو صندوق النقد، إلا أن لهذا الأمر تبعات سياسية، وهو ما يجعل هذا الملف إشكالياً في بعض المراحل.

الجولة السابقة من المفاوضات
بداية المفاوضات مع الصندوق كانت في عام 2020، وبعد انفجار مرفأ بيروت وقبله انهيار القطاع المصرفي، بدأ الحديث عن إصلاحات اقتصادية ومالية مطلوبة من لبنان للحصول على دعم مالي من صندوق النقد. لكن، في كل مرحلة، تكشّفت عقبات كبيرة على مستويين: أولاً، عدم توافق القوى السياسية على نموذج إصلاحي واضح، وثانياً، رفض المصارف التعامل مع المطالب المتعلقة بتوزيع الخسائر. وفي هذا السياق، يمكن تتبع عدة محطات رئيسية في العلاقة بين لبنان وصندوق النقد. ففي البداية، كانت المطالب تركّز على إصلاح القطاع المصرفي وإعادة هيكلة الدين العام الذي وصل إلى نسب غير مسبوقة. لكن هذه الخطط اصطدمت بجدار المماطلة السياسية والانقسامات بين مراكز القوى الاقتصادية والسياسية. ومنذ ذلك الحين، تعطّل الحوار مع صندوق النقد في أكثر من مناسبة، واستمر البلد في حالة الانهيار مع استمرار الغياب في الشفافية وعدم وضوح الرؤى في مواجهة الأزمة. وفي وقت يدفع المواطن العادي الثمن من قوته ومعيشته، بقيت المصالح المتشابكة والمصالح النفعية الخاصة هي المحرك الأساسي للقرارات.

Add to Home screen
This app can be installed in your home screen