الأخبار _ مرحلة التحولات الكبرى وتطوير أطر المواجهة
31 كانون الثاني 2025

الأخبار _ مرحلة التحولات الكبرى وتطوير أطر المواجهة

علي فياض

يمرّ لبنان وسوريا وفلسطين، وربما المنطقة بأكملها، في مرحلة تحولات كبرى، نتيجة الأحداث الزلزالية التي شهدها عام 2024، وتحديداً في الربع الأخير منه منذ أيلول الماضي.
من الأهمية بمكان إدراك حجم هذه التحولات وخطورتها من ناحية تأثيراتها الإستراتيجية والتاريخية، وهي التي تكثَّفت في مدة زمنية قصيرة لا تتعدى عدة أشهر، في حين أن من طبيعة مثل هذه التحولات، عادة، أن تتراكم في مديات طويلة زمنياً.

ولأن هذه التحولات تستلزم وعياً استثنائياً، فإن من إسرائيل الخطورة أن تواجه بمنطقَين قاصرين:
1- المنطق الانهزامي الذي يسقط تحت وطأة التحولات، فيطيح بالثوابت، ويغادر الأرضية والأطر التي تنطلق منها المسؤوليات والأدوار الوطنية والقومية والإسلامية في مواجهة التحديات.
2- المنطق الدوغماتي الجامد، العاجز عن مواكبة التحولات، والقاصر عن التكيُّف مع المتغيِّرات، والذي لا تتيح له منهجياته في التحليل التاريخي أو الوعي السياسي امتلاك الوتيرة الملائمة لمواجهة الواقع المتسارع عبر تطوير أدوات وأطر المواجهة وتوسعتها، وإعادة ترتيب الأولويات، والاعتراف بنقاط الضعف ومعالجتها، والاستفادة من نقاط القوَّة والمراكمة عليها، وتحديد مكامن الاستعصاء وفهم المسارات المغلقة، بهدف تجاوزها.

إذن، ثمة حاجة إلى مقاربة أخرى تتجاوز هذين المنطقين، تتسم بالصلابة في التمسُّك بالثوابت، وبالعقلانية في قراءة النتائج المترتبة على التحولات، وبالمرونة في إعادة ترتيب الأولويات وابتكار وتطوير أطر المواجهة وأدواتها.
هناك ثلاثة مواطن ضعف، استُخدِمْت كمنصَّات استهداف لمشروع المقاومة، ونجح الأعداء والأخصام في توظيفها واستثمارها:
1- تحوّل الدولة إلى دولة رخوة أو متعثرة وأحياناً فاشلة، عاجزة عن القيام بوظائفها الأساسية، ما يترك تأثيرات سلبية في مجمل الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
2- الانهيارات الاقتصادية والمالية نتيجة السياسات الخاطئة والفساد والضغوطات الخارجية من عقوبات ومقاطعة وحجب الاستثمارات والتعقيدات المصرفية.
3- الانقسامات الداخلية العميقة السياسية والطائفية المولِّدة لديناميات التفسّخ المجتمعي الذي يهدد استقرار المجتمع وتماسكه ووحدته.

لئن تبدو هذه الاستهدافات في صلب الرؤية المعادية للمقاومة ومن أدواتها الإستراتيجية في المواجهة، وهي كامنة في المشهد الخلفي للمواجهة في مستواها العسكري. إلا أن علينا الاعتراف بأن مشكلة الدولة والحاجة إلى إصلاحها وإعادة الاعتبار للأهمية الحاسمة لمفهوم الدولة وقيم التفكير الدولتي، يجب أن تحظى في فكرنا السياسي باهتمام أكثر تركيزاً ودأباً ومتابعة. إذ إن الدولة المعطوبة تنتج مباشرة مجتمعاً معطوباً في استقراره وقدراته وإمكانات تطوّره وازدهاره.

وكذا الأمر في أهمية المسألة الاقتصادية وحماية النسيج الداخلي لمجتمعاتنا من التمزّق والتفسّخ الذي ينطوي على مخاطر قاتلة ويُهدد كل البناءات والمنجزات.
في الحالة الراهنة، نحن مقبلون على مرحلة جديدة، ترتسم في أفق ثلاث قضايا كبرى: أولاً، حماية السيادة اللبنانية. وثانياً، إطلاق عملية إعادة الإعمار. وثالثاً، إصلاح الدولة وإعادة بناء مؤسساتها واقتصادها.

إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة وقيم التفكير الدولتي يجب أن تحظى في فكرنا السياسي باهتمام أكثر تركيزاً

في قضية السيادة، لا يقتصر الأمر فقط على تطبيق القرار 1701 الذي يفرض انسحاباً إسرائيلياً كاملاً ووقف كل الأعمال العدائية واحترام السيادة اللبنانية براً وجواً وبحراً وعودة المواطنين اللبنانيين عودة آمنة غير مشروطة إلى قراهم ومدنهم، وحق اللبنانيين جميعاً في الدفاع عن بلدهم ومقاومة أي عدوان أو انتهاك لسيادتهم.
كما أن حماية السيادة، تستدعي حماية القرار السياسي اللبناني من موجات الاستباحة الخارجية التي نشهدها يومياً على مستويات مختلفة، داخل الدولة ومؤسساتها وفي الحياة السياسية اللبنانية.
أما في قضية إعادة إعمار ما هدمه العدوان الإسرائيلي الوحشي، فإن الوضع يستدعي إسراعاً في متابعة الملف ومعالجته وتوفير مصادر التمويل وتنفيذه، ومقاربة العملية كعملية وطنية إنسانية، مع رفض رهنها لأي شروط سياسية.

وفي ما يختص بإعادة بناء الدولة وإصلاحها، وهو الشعار الذي يتكرر في خطاب الأحزاب والشخصيات كافة، لكن بكثير من الغموض ومن دون تحديد واضح لمضمون هذا الإصلاح ووجهته، ففي الواقع، ثمة إجراءات وتشريعات وتوجُّهات فورية وأخرى انتقالية، يمكن المباشرة بها، مثل إصلاح القضاء وتعزيز دور المؤسسات الرقابية، وإقرار خطة إعادة الانتظام المالي والاقتصادي، وتصويب السياسات الاقتصادية، ووضع حد نهائي لمكامن الفساد ومظاهره، وترشيد القطاع العام، ومعالجة الفجوات الدستورية التي تعيق إنجاز الاستحقاقات الدستورية بانسيابية ومن دون أزمات.

بيد أن الإصلاح البنيوي المنشود يبقى قاصراً، ما لم يتحرك في أفق الإصلاحات السياسية والدستورية التي تضمَّنها اتفاق الطائف، ثم الدستور اللبناني، وعلى الأخص في مادتيه 22 و 95 اللتين حددتا الإجراءات الواجبة لإلغاء الطائفية السياسية وتحديث النظام السياسي اللبناني.
لقد آن الآوان لوضع حد لكل الممارسات والمواقف التي مورست على مدى العقود الثلاثة الماضية وأعاقت تطبيق الطائف وأدَّت إلى تعميق الطائفية وتحولها إلى مذهبية سياسية بدل إلغائها.
هنا بالضبط مكمن العقدة الكبرى في بناء الدولة وإصلاح النظام السياسي، في الوقت الذي جرى اتهام المقاومة بأنها تعيق بناء الدولة، والتلطّي وراء هذا الاتهام لإخفاء جوهر المشكلة وللتملص من استحقاق الإصلاحات التي تمثل التزاماً ميثاقياً واجباً على المكوّنات اللبنانية كافة.
وفي هذا السياق، يجب أن تنتهي مدة السماح والتهاون تجاه الإمعان في الممارسات الطائفية التي تتجاوز الأصول والقواعد التي يتضمنها الدستور وتستند إلى اتفاق الطائف، تحت أي مسمى.

ونعتقد أن المرحلة الراهنة بامتداداتها المقبلة، تستدعي توسّعاً في أطر ومجالات التعاون الوطني العريض تحت شعارات ثلاثة كبرى وهي:
1- المقاومة باقية ومستمرة، مع التأكيد على التمسك بإرادة المقاومة في مواجهة كل الضغوط والتهديدات على اختلافها.
2- العمل الجدي نحو دولة قادرة وعادلة وفقاً للآلية التي نصَّ عليها اتفاق الطائف والدستور اللبناني.
3- حماية الوحدة الوطنية في مواجهة التحديات الوافدة التي تهدد وحدة الكيان اللبناني، أو التحديات الداخلية التي تعمّق الانقسامات وتثير الفوارق والتمايزات بين اللبنانيين، بهدف الانتكاس في صيغة النظام السياسي والتركيبة اللبنانية إلى مزيد من التطييف والضعف.

* عضو كتلة الوفاء للمقاومة، نص كلمة أُلقيت في مؤتمر «الوحدة الوطنية والسلم الأهلي وبناء الدولة» الذي عقد في قاعة الأونيسكو بدعوة من «الجبهة الوطنية» في 25-1-2025.

Add to Home screen
This app can be installed in your home screen