قطار لبنان طيّ النسيان وقطارات المنطقة تتحرّك
عبد الكافي الصمد
قبل ما يزيد على عقدين ونيّف من الزّمن، وتحديداً في شهر نيسان من العام 2002، وضع وزير الأشغال العامّة والنقل عام ذاك (الرئيس) نجيب ميقاتي، مع نظيره السّوري مكرم عبيد، بالقرب من مرفأ مدينة طرابلس، حجر الأساس لمشروع سكّة الحديد الذي سيربط بين عاصمة الشّمال وسوريا عبر خطين رئيسين: الأوّل باتجاه حمص والداخل السّوري، والثاني باتجاه مدينتي طرطوس واللاذقية والسّاحل السّوري.
ومع أنّ ذلك المشروع الذي يُعدّ حيوياً للبلدين، وللبنان أكثر منه لسوريا، كان يُعوّل عليه لإحداث نقلة نوعية في العلاقات الإقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين، فإنّ أيّ خطوة باتجاه تنفيذه لم تحصل، إذ أنّ التطوّرات اللاحقة حينها من إغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وانسحاب الجيش السّوري من لبنان في نيسان من العام نفسه، وما تبعه من تراجع العلاقات الرسمية بين الدولتين، جعلت مشروع سكّة الحديد المذكور يدخل طيّ النسيان، وجعل طبقات سميكة من الغبار تعلو لوحة حجر الأساس الرخامية.
الأهمية الكبيرة لمشروع سكّة الحديد تلك عاد إلى الأضواء ثانية، بالتزامن مع الحديث عن نوايا دول وشركات عالمية إعتماد مرفأ مدينة طرابلس، الذي شهد تطوّراً وتحسنّاً في خدماته ومرافقه في السّنوات الأخيرة، كمنصّة رئيسية في مشروع إعادة ما هدّمته الحرب في سوريا، لكنّ السّؤال الأساسي بقي هو كيف يمكن الإستفادة من هكذا فرصة مستقبلاً، إذا ما أتيحت، والبنى التحتية من طرقات، ومنها مشروع سكّة الحديد، ليست موجودة نهائياً، والمتوافر منها ـ من طرقات برّية ومعابر حدودية ـ لا يتمتع بالحدّ الأدنى المقبول؟
وبينما السّلطات الرسمية في لبنان غارقة في بحر النسيان وفي أزماتها وانقساماتها، بدءاً من الأزمة الإقتصادية والمالية والإنهيار الكبير الذي شهده لبنان في أعقاب حَراك 17 تشرين الأوّل 2019، ومنذ الفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية منذ 31 تشرين الأوّل 2022، شهدت العاصمة العراقية بغداد يوم السّبت (27 أيّار) مؤتمراً شاركت فيه دول مجلس التعاون الخليجي الستّ إضافة إلى دول جوار العراق، سوريا والأردن وإيران وتركيا، لإطلاعهم على مشروع "طريق التنمية"، وهو مشروع طريق برّي وآخر لسكك الحديد، يربط بين مرفأ مدينة الفاو في جنوب العراق وبين مدينة فيشخابور في شماله، بطول يقارب 1200 كيلومتر.
المشروع المذكور، وباختصار، الذي تنفّذه شركة "دايو" الكورية الجنوبية، يفترض أن ينتهي العمل به عام 2028، أيّ بعد خمس سنوات من الآن، وقد نُفّذ منه حتى الآن نحو 40 في المئة، وتحديداً في جنوبه، وتبلغ تكلفته قرابة 17 مليار دولار، إلّا أنّه سيوفر نحو 100 وظيفة عمل، وتنمية المناطق التي سيمر بها، ومردوداً مالياً سنوياً لا يقلّ عن 4 مليارات دولار، ويُخفّض فترة نقل البضائع والأشخاص من دول الخليج والعراق باتجاه تركيا وأوروبا من 30 ساعة إلى 15 ساعة، وسيُشكّل ركيزة إقتصاد مستدام لا يعتمد على النفط فقط، وسيجعل من العراق عقدة مواصلات رئيسية في المنطقة.
كلّ ذلك يحصل بينما العراق لم ينتهِ من أزماته الدّاخلية بعد، لكنّه لم ينتظر إنتهاء هذه الأزمات، ومعها أزمات المنطقة ليبدأ الشّروع بتنفيذ مشاريع إستثمارية ومستقبلية، ولم يقفل الباب أمام دول الجوار أو بعضها أو يعاديها ليُخطط للمستقبل، بل إنطلق من مبدأ أنّ المصالح تعلو فوق كلّ الخلافات، وأنّ المنطقة التي تشهد تبدّلات وتغيّرات يومية متسارعة، ومعها العالم أيضاً، وأنّ عليهم ـ في العراق ـ مواكبتها للإستفادة منها وجني ثمارها، على عكس السّلطات الرسمية في لبنان التي اعتادت ـ تاريخياً ـ الجلوس على قارعة الطريق، تمزّقها الخلافات الداخلية والولاءات الخارجية، وتنتظر الخروج من الأزمات بمساعدة الخارج، من غير أن تبذل أيّ جهد ولو بسيط لتحمّلها مسؤولياتها، وإنقاذ البلد من عثراته وأزماته.