كيف استطاعت المقاومة في لبنان بناء قدراتها والوقوف في وجه
09 كانون الثاني 2025

كيف استطاعت المقاومة في لبنان بناء قدراتها والوقوف في وجه "إسرائيل"؟

كتبَ المُحرّر

بعدما حققت المقاومة اللبنانية هدفها بدحر الاحتلال الإسرائيلي عن أراضيها، في العام 2000، في الجنوب اللبناني والبقاع الغربي باستثناء مزارع شبعا، وحطّمت أحلام "إسرائيل" بضم الجنوب حتى نهر الليطاني الى كيانها الغاصب، بات من الضروري نقاش أسباب نجاح هذه المقاومة التي عجزت أقوى قوة في غرب آسيا (الشرق الأوسط) القضاء عليها.

انطلقت المقاومة اللبنانية في مرحلة من الفوضى المسلّحة إبان الحرب الأهلية والوجود الفلسطيني في لبنان، وفي ظل عجز الدولة  اللبنانية عن الوقوف في وجه جيش الاحتلال الإسرائيلي المدجج بأكثر أسلحة العالم تطورًا؛ خرج رجال المقاومة من البيوت الفقيرة التي عانت بسبب الاحتلال، فكانوا من الشبان الذين نذروا أنفسهم للجهاد والشهادة، همّهم الوحيد وشغلهم الشاغل التفكير في كيفية إعداد الخطط لمباغتة قوات العدو وإنزال الخسائر بها، ثم التواري لتنظيم هجمات جديدة أشد وأقسى وقعًا.

لقد اكتسبت المقاومة قوتها وفاعليتها من حرب العصابات التي اتخذتها طريقة ونهجًا لها مستفيدة من تضاريس الجبال والأودية الوعرة، ومن السرية في العمل والعقيدة القتالية، ثم من تطوير قدراتها التسليحية والعددية، بالإضافة الى الدعم الخارجي الذي تلقته على صعيد التجهيز والتدريب.
هذا فضلًا عن الرضا الشعبي والتكامل والتناغم بين المقاومين والسكان المحليين.
حيث أصبح الفعل المقاوم ثقافة عامة متغلغلة في المجتمع، ترى فيها النساء والأطفال المقاومة العسكرية درعهم الحصين من اعتداءات العدو اليومية على قراهم الآمنة. وبهذا تكون المقاومة قد أمّنت الشرعية والملاذ الداخلي لها في الدعم الشعبي، ووُجِدَت في ظروف تتوافر فيها جميع هذه العناصر.
الانطلاقة في العام 1982 إلى الانتصارين في 2000 و2006 وصمودها الأسطوري في 2024.

مع الأيام؛ نجحت هذه المقاومة في فرض أمرين: الأول التحوّل إلى ظاهرة راسخة وفعل يومي ثابت ومتعدّد، والثاني اكتساب شرعيتها من العدو قبل الصديق، إذ اعترفت بها "إسرائيل" خلال تفاهم نيسان 1996، والصهاينة أنفسهم لم يتمكّنوا طويلًا من إنكار حق اللبنانيين بالمقاومة، إذ إنّ خطاب معظم المراقبين لديهم تغيّر، فهم لم يعودوا إلى الكلام عن "اعتداءات" أو "إرهاب" ولكن عن عمليات مقاومة وحرب عصابات. وهذا يؤكد نجاح المقاومة في اختراق النسيج المجتمعي والسياسي الإسرائيلي. 

وعليه، تحتاج المقاومة في أي دولة تعاني بسبب الاحتلال لإنضواء السكان في الكفاح من أجل التحرر الوطني الذي يشكّل همًّا أساسيًا تحركه المقاومة.
وفي لبنان اكتسبت عطف السكان وتأييدهم وصمودهم وحتى انخراط الكثيرين منهم تحت لوائها، في حين أن الاحتلال الإسرائيلي لا يملك ما يقنع أحدًا بمشروعية احتلاله، وهكذا أصبح المقاومون يضربون العدو ثم يختفون ويذوبون في الشعب الذي أصبح بكامله مقاتلًا متمسكًا بأرضه.
وبالرغم من الضغوط كافة التي مارسها الاحتلال ضد الشعب في المناطق المحتلة من قمع وسجن وتعذيب، وفي المناطق المحررة من قصف للبنية التحتية والمنازل، لم تنفع في توجيه غضبه ضد المقاومة، بل العكس؛ هناك علاقة مقررة محكمة بين مقاومة الشعب ومقاومة المقاتلين.

إذ إن انضمام الشعب هذا تحت راية المقاومة يكشف نجاحها؛ لأن الهدف السياسي لحرب العصابات الثورية هم السكان أنفسهم، وفي لبنان كان الكفاح ضد المحتل، في شكل من أشكاله على الأقل، كفاحًا ضد الظلم والبؤس اللذين تسببت بهما أعوام الحرب بعد عقود طويلة من غياب العدالة الاجتماعية السياسية الاقتصادية التي توّجت بالاحتلال الإسرائيلي.
وبما أن الدولة اللبنانية لم تملك الوسائل، من جيش نظامي قوي وأسلحة متطورة لمقاتلة الكيان الصهيوني، فقد تولّى رجال المقاومة هذه المهمة من خلال حرب العصابات التي ليست سوى نضال شعبي تعتمد على الدعم الكامل للسكان المحليين، والتي من ميزاتها التناغم واحترام القائد والشجاعة، ومعرفة الأرض والتكتيك المتبع.

وحرب العصابات الضعيفة عسكريًا تحتاج إلى أن تكون قوية على المستوى التنظيمي، فالتنظيم المحكم هو العامل الذي يتيح للمقاومة أن تعوّض التفوّق المادي الكاسح الذي يتمتع به العدو، وهذه الصفات جميعها امتلكتها المقاومة في لبنان.

كذلك تسجّل للمقاومة ممارستها العمل في صمت وسرية، بعيدًا عن الشعارات الرنانة الفارغة، ما جعلها تفرض احترامها على الجميع. لذلك لم تعد هدفًا لأي إدانة.
كما أن الطبيعة الجغرافية للبنان، من أحراج وجبال ووديان وعرة، ساعدت في حيّز واسع رجال المقاومة على الإخفاء والاختباء وعلى الاتصال والتوزّع.
وبفضل الأرض استطاعت المقاومة تلقّي الأسلحة وإلهاء جيش الاحتلال في مهمات عسيرة وخلق "ملاذات" آمنة لها. 
ومع امتلاك "إسرائيل" تقنيات الحرب الإلكترونية والتكنولوجية الحديثة التي من المفترض أن تجعلها تسيطر بشكل كامل على الأرض ومقاوميها؛ لكنها وقفت عاجزة أمام التخلّص من المقاومة في حرب أيلول 2024.
فصحيح أن هذه الحرب استطاعت تقصير الأوقات العملياتية بفضل أدواتها القاتلة، لكنها بقيت عاجزة عن السيطرة ومنع الدعم الخارجي للمقاومة الذي هو جزء أساس في نجاحها؛ لأنه من دون بلد يوفر لها التغطية السياسية والدعم العسكري غير المباشر على الأقل قد لا تقوى على الاستمرار والصمود، وخير دليل على ذلك الثوار الجزائريون الذين تلقوا كلّ أنواع المساعدة من تونس ومصر وغيرهما، والفيتناميون الذين تمتعوا بدعم الصين والاتحاد السوفياتي، وكذلك كان حال المقاومة في لبنان التي حظيت بدعم سوري وإيراني سياسي وعسكري ومعنوي ومادي وغيره، ولولا هذا الدعم لما استطاعت أن تصمد وتقوى.

هكذا؛ استطاعت المقاومة في لبنان، بفضل هذه العناصر المذكورة أن تفرض احترامها في الداخل والخارج، فهي مقاومة مشروعة تدافع عن قضية عادلة ضد محتل أجنبي، ما كان لها أن تنجح لولا تأييد الشعب لها ودعمه، وإلا لاختنقت في مهدها وأصبحت عصابة خارجين عن القانون.

 

Add to Home screen
This app can be installed in your home screen