حياديّة التوقيت
الشّيخ مصطفى ملص.الوقت مسألة حياديّة ، وهي علامات موضوعة ليعلم النّاس مواعيدهم والتزاماتهم ، سواء كانت دينيّة أو دنيويّة ، وليس من المعتاد وصف الوقت بأوصاف عرقيّة أو اعتقاديّة ، فهو حاكم على النّاس وليس محكومًا لهم ، والعبث بالوقت أو المواقيت أمر يجعل حياة النّاس في فوضى واضطراب ، فلا يعودوا بإمكانهم معرفة متى يُؤدّون التزاماتهم أو يستوفون حقوقهم ، وبفضل التّكنولوجيا الحديثة وارتباط مصالح النّاس بها صارت مسألة الوقت من أهمّ المسائل وأكثرها حساسيّة ، فكلّ شيء مرتبط بالوقت ، ابتداءً من دوام العمل إلى إقلاع وهبوط الطّائرات وانطلاق الرّحلات البرّيّة والبحريّة لا سيّما القطارات ، بل إنّ التّكنولوجيا الحديثة بدون انضباط الوقت تصبح نوعًا من العبث القاتل ، لذلك أهمّيّة معرفة الوقت وارتباطه بالمكان بشكلٍ مسبقٍ قضية لا بدّ منها لانتظام كلّ التّصرّفات وجميع الأمور المشتركة ، وقد توصّلت البشريّة اليوم إلى اتّفاقٍ عمليٍّ حول هذا الأمر فليس هناك أمر أكثر جلاءً ووضوحًا من مسألة الوقت ، ليس لدى أبناء الدّولة الواحدة فقط بل بين دول العالم بعضها مع بعض نظرًا لتمدّد شبكات العلاقات والمصالح بينها إلى حدٍّ معقّدٍ جدًا جدًا .
وعلى فرض قيام جماعة أو طائفة أو دولة باعتماد تقويمٍ أو توقيتٍ مختلف ، فإنّ ذلك يكون تدبيرًا داخليًّا غير مُلزم لسواهم لا سيّما المجتمع الدّوليّ . فالصّابئة مثلًا السَّنَة عندهم تسعة عشر شهرًا ، والشّهر تسعة عشر يومًا ، بينما المجتمع الدّوليّ يعتمد عدد ١٢ لشهور السّنة بأيّامها المعروفة و المبنيّة على حساباتٍ فلكيّةٍ دقيقة ، كما أنّ المسلمين يعتمدون السّنة القمريّة الّتي يقلّ عدد أيّامها عن السّنة الشّمسيّة بما يقارب عشرة أيام ، وهناك شعوب تعتمد حسابات وتقاويم أخرى لكنّها إمّا محلّيّة أو داخليّة وليس لها صفة العموم ، ومنها في بلادنا مثلًا أنّ الفلّاحين والملّاحين يعتمدون في حساباتهم الزّراعيّة والبحريّة التّقويم اليولياني ( نسبة إلى أحد الأباطرة الرّومان) فيما تعتمد الحكومات والدّول في عملها الرّسميّ التّقويم الغريغوري ( نسبة إلى إمبراطورٍ رومانيٍّ آخر ، أدخل تعديلاتٍ على التّقويم الأوّل ) .
ما حصل في لبنان من مسألة تقديم وتأخير السّاعة فيما يُعرَف بالتّقويم الصّيفيّ والتّقويم الشّتويّ ، وصبغه بالصّبغة الطّائفيّة أمر لا يمكن للمرء أن يفهمه إلّا إذا كان عالمًا بأمراض البلد الطّائفيّة والمذهبيّة والسّياسيّة ، فهو أمر طائفيّ سياسيّ بحت ، ويدخل في إطار الصّراع والنّكد والكيد السّياسيّ. كلّ أطراف النّزاع في المسألة خاطئون ، فلا تقديم السّاعة ولا تأخيرها يُؤثّران على صوم المسلم وعباداته المرتبطة بعلامات اللّيل والنّهار وليس بساعاته المعروفة ، ولا المسيحيّ يتأثّر بذلك ، وحتّى الجدوى الاقتصاديّة من تقديم السّاعة وتأخيرها لم تعد موجودة ، بل أنا أرى أنّ اللّعب بالسّاعة تقديمًا وتأخيرًا أصبحت عبثًا غير مفهوم ولا مُبرّر ، وقد تخطّت معظم دول العالم هذا الأمر وعمدت إلى اعتماد توقيت واحد للصّيف والشّتاء .
ما لفت نظري في الأمر أنّ النّاس أخذت تتحدّث عن توقيتٍ إسلاميٍّ وتوقيتٍ مسيحيٍّ ، إذ أنّ معظم القوى السّياسيّة المسيحيّة رفضت خطوة رئيس الحكومة بتأجيل العمل بالتّوقيت الصّيفيّ شهرًا واحدًا هذه السّنة بسبب صوم شهر رمضان ، وانبرى أحد المشايخ الّذين يشغلون وظيفة دينيّة سُنّيّة رسميّة ويحاول أن يظهرَ بمظهرِ المتحدّث المعبّر عن وجدان المسلمين السُّنّة في لبنان بالقول في تغريدة تويتريّة بما معناه (صار لنا توقيتٌ إسلاميٌّ)
فهل هناك توقيتٌ إسلاميٌّ حقيقيٌّ غير المنسوب إلى الرّئيس ميقاتي ؟
نعم هناك توقيتٌ إسلاميٌّ آخر ومختلف كلّيًّا عن التّوقيت الّذي اعتمدته رئاسة مجلس الوزراء ( وبالمناسبة اسم عائلة الميقاتي مأخوذ من مهنة تحديد أوقات الصّلوات وبقيّة العبادات للمسلمين، وبدايات الشّهور القمريّة، فهو ميقاتي بالفعل )
ماهو التّوقيت الإسلاميّ؟ :
هل هناك ميّزات تُميّز التّوقيتَ الإسلاميَّ ( الّذي لم يعد معتمدًا في الظّاهر ولكنّه في الحياة العمليّة ما زال معتبرًا في الصّلوات والشّعائر والعبادات)؟
أوّلًا: في التّوقيت الإسلاميّ يسبق اللّيل النّهار ، فاللّيل جزءُ اليوم الأوّل، والنّهار جزؤه الأخير ، فمع غياب الشّمس التّام يبدأ اليوم ، ولحظة غروب الشّمس التّام تكون السّاعة صفر أو بالمفهوم المتعارف عليه السّاعة الثّانية عشرة وبعد الغروب بساعة تصبح السّاعة الواحدة وهكذا إلى أن تتمّ السّاعات الاثنتا عشرة ثم يبدأ النّهار ويعود العدّ من جديد إلى أن ينتهي غروب الشّمس بتمام السّاعة الحادية عشرة ، ثم يبدأ يوم جديد ، وفي غالب الأحيان يكون أذان الظّهر في السّاعة السّابعة وهو وقت زوال الشّمس عن كبد السّماء.
ولقد قسّم العرب قبل الإسلام النّهار إلى اثنتا عشرة ساعة ولكلّ ساعة اسم مثل الضّحوة والغدوة والظّهيرة والعشيّ والغروب وغير ذلك ممّا لا مجال لتعداده، كذلك قسّموا اللّيل إلى اثنتي عشرة ساعة كالدّلجة والعتمة والفجر والصّبحة وهكذا ، ويقول الباحثون إنّ هذه السّاعات لم تكن متساوية في الطّول والقصر كما هي السّاعة في عرفنا المُؤلّفة من ستّين دقيقة والدّقيقة المُؤلّفة من ستّين ثانية ،ومع هذا الاختلاف يبقى اللّيل والنّهار أربعًا وعشرين ساعة ، واللّيل أوّل اليوم ،ويبدأ بعد الغروب ، ونقول لِلّيلة الّتي تسبق نهار الإثنين ليلة الإثنين ولِلّيلة الّتي تليها ليلة الثّلاثاء ، ولهذا نلاحظ أنّ المسلمين يصلّون صلاة القيام المسمّاة التّراويح قبل نهار الصّيام وليس بعده .
طبعًا هذه مقالة مقتضبة في الموضوع اقتضتها المناسبة اللّبنانيّة ، والموضوع ربّما يحتاج إلى معالجة أوسع .