تآكلُ "الرّدع الإسرائيلي" في مواجهة حزب الله في الشّمال
كتَبَ المُحرّرمع تصاعد وتيرة عمليّات حزب الله ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، كَمًّا ونوعًا، خلال الأيّام الأخيرة من المواجهة على جبهة لبنان، عادت نظريّة "التفوّق وقوّة الرّدع" التي كان يتمتّع بها جيش الاحتلال منذ تأسيسه إلى الواجهة؛ إذ أثبتت المنظومة الدّفاعيّة له، حسب قادته ووسائل إعلامه، تآكلها وفشلها في ردع هجمات المقاومة في الشّمال الفلسطيني المحتلّ، حيث أصبحت مشاهدُ صواريخ الحزب ومسيّراته الانقضاضيّة التي تطارد جنود الاحتلال وتستهدف مواقعهم وآليّاتهم وتجهيزاتهم، بالإضافة إلى مشاهد الدّمار والحرائق الذي تخلّفه، هاجسًا لا يفارق الصّهاينة، ما أشعل لديهم موجةً غير مسبوقة من الهلع والانتقادات اللاذعة لأداء حكومتهم وعجزها عن الوقوف أمام قوّة وقدرة المقاومة في إعادة الأمن لهم في المستوطنات التي هُجّروا منها.
شهادات وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين ووسائل إعلامهم، تُظهر يومًا بعد يوم حجم المأزق الذي يعانيه جيش الاحتلال على الجبهة الشمالية ضد مقاتلي حزب الله، فالتصعيد الميداني "الأعنف" في الأشهر والأسابيع الماضية، مع ما قد يحمله من دلالاتٍ، ترافق مع تهديدات هي الأقسى من نوعها تناوب عليها قادةُ العدو، ما يُعبّرُ عن وجود "مشكلة حقيقية وجدّية" في الشمال المحتل، حيث أقرَّ المحلّلون الصّهاينة أنفسهم بتحوّلٍ "نوعيٍّ" أسهمت فيه الضربات التي نفّذها حزب الله مؤخّرًا من إسقاط المسيَّرة (مرّة جديدة)، والتي وصفها العدوّ بـ"الأكبر والأغلى"، وصولاً إلى الحرائق التي تسبّب بها على طول الحدود، والتي أشعرتهم بنوعٍ من "الخيبة"، وبأنّ "قوّة الرّدع" تتآكل.
كما أشارت التقارير الإسرائيلية إلى حالة ذهول وصدمة في الكيان الصهيوني خوفًا من قدرات المقاومة التي كشفت بعضًا منها، إذ تعمَدُ قيادتُها بين فترة وأخرى إلى تمرير رسائل للكيان الغاصب لفهم مدى المخاطر التي تنتظره من أيّ مغامرةٍ واسعة باتجاه لبنان.
وبحسب المحلّلين والخبراء والمُختصّين الصّهاينة، فإنّ "الرّدع الإسرائيليّ لم يتآكل فقط، بل اختفى كلّيًّا من الوجود، الأمر الذي أكّده حزب الله بقصفه الصاروخيّ اليوميّ لـ"شمال إسرائيل"، الذي تحوّل لمنطقة أشباحٍ خاليّةٍ، ويُمنَع المُواطنون من الوصول إليها".
بالإضافة إلى ذلك، يؤكِّدُ الخبراء، نقلاً عن المصادر السّياسيّة والأمنيّة في "تل أبيب"، أنّ "تهجير سُكّان الشّمال، وعددُهم يصل إلى حوالى مئة ألف، يُعتبر انتصارًا إستراتيجيًا كاسحًا لحزب الله؛ إذْ أنّه للمرّة الأولى في تاريخ "إسرائيل" يعيش حوالى مئة ألف لاجئٍ خارجَ ديارهم خوفًا من حزب الله. وخير دليلٍ على هذا الواقع المرير الذي يعانيه جيش الاحتلال على طول الجبهة مع لبنان، كلامُ بني غانتس الذي قال إنّ "الشمال يحترق، ومعه تحترق قوّة الرّدع الإسرائيلية".
حالة الميدان المتعثّر هذه دفعت بالتهديدات الإسرائيلية إلى أن تبلغ ذروتها من "الجنون"، وهو ما تجلّى في كلام وزير المالية الإسرائيلي الذي رسم سيناريو "الحرب" بما يتجاوز حتى حرب تموز 2006، ويقوم على دمجٍ بين الهجوم البرّي والاحتلال، وصولاً إلى ضرب العاصمة بيروت نفسها. أمّا أبلغ ما قيل عن تآكل الردع الإسرائيلي في مواجهة حزب الله، فجاء على لسان اللواء الاحتياط في جيش العدو والقائد السابق للقوات البرية الجنرال يفتاح رون تال، إذ رأى أنّ "إسرائيل وصلت إلى صفر ردع في مواجهة حزب الله مع قدراته الخطيرة"، مؤكّدًا أنّ "نصر الله لا يخاف منا". وردًّا على السّؤال عن موعد بدء الحرب في الشّمال، نقل موقع "والاه" الإسرائيلي عن رون تال قوله: "إن الحرب جارية فعلاً في الشمال، وهي حرب نشعر فيها بالإذلال"، مضيفًا أنّ "حزب الله بنى منطقة أمنية، لقد فكّكوا بلداتنا، ونصف السكّان لا يعرفون إذا كانوا سيعودون، نحن في حالة انهيار".
وسائل إعلام العدو كشفت أيضًا ما يدور على امتداد حدود فلسطين المحتلة مع لبنان، حيث ذكرت صحيفة "ماكور ريشون" العبريّة، أنّ "هناك الكثير ممّا يُمكن خسارته في الحرب الدائرة في الشمال، فمنذ أن دخلت إسرائيل الحرب، تآكلت معها بقايا مفهوم الرّدع ضد حزب الله". وفي مقال نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم" للمؤرّخ الصّهيوني إيال زيسر، المُدرّس في قسم تاريخ الشرق الأوسط بجامعة "تل ابيب"، رأى فيه أنّ "النار في الشّمال لا تتوقّف للحظة، وهي شديدة وفتّاكة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ومقابلها تكتفي قيادتنا السياسية والعسكرية بالتصريحات المتبجّحة والتهديدات العابثة، التي لم يعد أحدٌ يتعاطى معها بجديّة، لا عندنا ولا في لبنان أيضًا. فبعد كل شيء، كم مرة يمكن الإعلان أنه نفدَ صبرُنا والتهديد بأن نعيد لبنان إلى العصر الحجري؟!"، مضيفًا أنّ "القيادة الإسرائيلية يتملّكها خوفٌ من حزب الله، وينتقل خوفها إلى الجمهور بكامله. وهذا الواقع من حرب الاستنزاف يجبي منّا أثمانًا متزايدة، ويقضم أيضًا ما تبقّى من قدرة ردعٍ لدينا".
وكان تقييمٌ لموقع "والاه" العبري قد أكّد كذلك أنّ "شهر أيار/مايو الماضي كان الأشدّ قسوة في القتال عند الحدود مع لبنان، موضحًا أنّ "الرّدع الإسرائيلي انهارَ خلال هذا الشهر". وذكرت وسائل إعلام العدو في وقتٍ سابق أن "حزب الله اللبناني ضربَ أهدافًا استراتيجية خارج التوقّعات".
أمام هذا الواقع المرير الذي أخذ يعيشه قادةُ الاحتلال وجنودُه ومستوطنوه على الجبهة الشمالية مع لبنان، بات على حكومة بنيامين نتنياهو التأقلم معه والإقرار ضُمنًا أنّ "قوّة الردع" لجيشها بدأت تتآكل مقابل هجمات حزب الله، وإمّا أن تذهب لحربٍ شاملة مع الحزب مثلما حصل مع حركة حماس، وهذا أمرٌ ستكون نتائجه كارثية على وجودية الكيان نفسه.