الـتـراث كـداعـم للهـويـات خصـوصــاً الـهـويـة الـوطـنـيـة
04 حزيران 2024

الـتـراث كـداعـم للهـويـات خصـوصــاً الـهـويـة الـوطـنـيـة

بقلم د.جوزفين سلمان يمين

فـي وقـت تـكـثــر فــيــه أصـوات قــرع طــبــول الحــرب وتــزداد المشـاكـل حـول الــعــالــم مـن كل حـدب وصــوب، هــل يمــكنــنـا التـحدث عــن التراث الوطنــي كـداعـم للهـويـات خصـوصــاً الـهـويـة الـوطـنـيـة ! ؟

بعد فتــرة مـن هــذا الـتـدميـر المنهجـي للـدولـة ، تـدميـر الـوطــن مــن قـبــل الــداخـل والخــارج ، هــل يمكـنــنا مـن إعـادة مـلائـمـة تراثـنـا وثـقـافـتـنـا مـع العـصــر الـرقـمـي، مـع الحـوكمـة الـعـالمـيـة ومـع العـولـمـة؟ كــيـف يمــكــن أن تتـكـيـف هــويتــنـا مع سـيـاقـهـا الإجتماعـي والثـقـافـي والإقـتصـادي ؟ مــا هــي خطـط الـتنمـية المتعاقــبة قصـيـرة كـانـت أم طويلة المدى للمـحــافظـة عـلـى تــراثـنــا اللبنــانـي؟ لنـحـافـظ عــلـى الـهـويـة الـوطـنـيـة اللبـنــانيـة؟ هــل الـدولـة قـادرة عـلى إنـشـاء إطـار عـمـل مؤسساتـي عـلى مستـويـات مختـلفـة مـن التنظـيم  لحمـايـة التـراث والهـويـة؟  أســــئــلة أطــرحـهــا عــلــى نفــسي وأشــاركــهــا معــكـم عـزيــزاتـي وأعــزائـي الـقــراء.

فــي لـبـنان، يـتـم تحـديـد يــوم الـتـراث الـوطنــي لـيـوم الـخـمــيس الـثـالــث مـن شـهــر أيـــار مـن كــل عــام. مــا هــو الـتــراث؟  الـتـراث هـو الإرث الـذي ورثـنــاه مـن المـاضي، الــذي نـنـعــم بـه الـيــوم، الــذي نـنـقــلــه إلـى أجـيــال الــغــد. يُــعـتـبـر الـتراث الـثـقـافـي والطبيـعـي نـبــع حــيــاة وإلــهـــام لا بــديــل لــه كـداعـم للهـويـات خصـوصــاً الـهـويـة الـوطـنـيـة.

 لا يخــفــى عـلـى أحــد أهـمـيـة التراث إذ يحـظـى بـأهـمـيـة فـائـقـة وطنـيـة وعـالمـيـة. يـمـثـّل التـراث الحـاضنـة الأسـاسـيـة للـهـويـة الـوطنـية. يمكـنــنـا القـول أن التـراث هـو ذاكـرة الـوطـن ومـوروثـه الـتـاريخـي. تطـور مفـهـوم الـتـراث والطبيـعـة التـي لا يمكـن الإستـغـناء عـنهـا لهـذا العـامـل المـتـمـثــل فـي الهـويـة والـذاكـرة والـرابـط الإجـتـمـاعــي. يمــكـنـنـا الـقــيام بـرحلة تـاريخـيـة رائـعـة لمفـهـوم التراث. إذ يـعـود تـاريـخ الفـكـرة إلـى الـعـصـور الـرومـانـيـة الـقـديـمـة ثــم تــطـور المفـهـوم مـن خـلال الـتوســع، والإنتـقـال مـن المجـال الـقـانـونـي الخـاص إلـى المجـال الـعـام، فـي الأبـعـاد الـتـاريـخيـة والجمـالـيـة.  يـبـدو لـنــا أن هـذه المفـاهـيم قـد وصلت الـيوم إلـى مـرحـلـة نـضـج جـديـدة. يمــكنــنـا النــقــر فـي الـفـضـاء الـرقـمــي أو قــراءة أبحــاث لمــراكــز علمـيـة لـيُظـهـر لـنــا البحــث أن فـي الـقـانـون البـيـئي وقـانون التخـطـيـط الحـضـري يـحــظـى الإهـتـمـــام بـالحـفاظ عـلى الـتـراث الطبـيـعـي والـثـقـافــي بأهـمــيــة قـصــوى. تــزداد أهـمـيـة الحـفـاظ عـلى الـتـراث فــي هــذا العصــر الــرقـمـي مع تـنـامـي ظاهـرة الـعـولـمـة ومـا تـنطـوي عـليـه مـن تحـدّيـــات هـائــلــة للثـقـافــات والهـويــات. مــمــا يــفـرض عـلــينــا ضرورة تعــزيــز التــراث وصــونــه والمحــافـظـة عــلـى الثـقـافــات فـي الــوطــن كضـمـانة لصـون الشخـصـيـة الـقـومـية للــدولــة. 

فـي ظـل هــذا التـطـور، يـجـب أن نعـتـرف بـأن وعـيـنا بالـتــراث فـي لـبـنـان لا يـزال أسـاســياً جـداً (Basic).  فـمـن تـدمـير المـعالـم الأثـريـة والـجـواهـر المـعـمـاريـة إلـى أحـياء بـأكمــلها ذات طـابـع تـقــليـدي، ومــن نـهـب الـبـقايــا الأثـريــة إلـى الـمـناظـر الطبـيعـيــة (مــنــاطــق الـتـي يشــغـلــهــا النــازحيــن أو اللاجـئـين أو المـهاجـريـن الســورييـن)  الـتـي كانـت مصـدر فـخـر لـمناطـق مـعـيـنة، يـتــم فـقـــدان ذاكـرة جـمـاعـيـة بـأكمـلـهـا لا بــل فـقـــدان هـويـة ثـقـافـيـة وطنـيـة بـأكـمـلـهـا. 

إن مـفـهـوم الـتـراث الثـقـافـي أصـبــح الـيـوم متـعــدداً ومتـطــوراً، حـتى فــي جـوانــب مـعيـنة معــقـدة ومـتـداخـلــة. فـي بـدايــة الألـفـيـة الثـالـثة، يُـفـهــم الــتــراث عـلى أنـه مـجــموعة مــن الـســلع وأســاليـب الحــياة والإنجــازات والأمــاكـن والأنـشطــة الـتـي تــوفـــر هــويــة معــتــرف بــهــا لـــمسـاحـة أو مـجـمــوعة بـشــرية، والـتي تـتـيـح للـمــرء أن يــجــد طــريــقــه إلـيــها الـتاريــخ ، والـحـفـاظ عـليـهـا بـإعـتـبـارهــا ثــروة لا غـنــى عــنهـا للأجــيــال الـقـــادمـة.


إن فــكـرة الـهـويـة، الـمــستـخرجـة مـن مـجــال تطبـيــقـها الـقــانـونـي، أي مجال المنـطـق، ومـنـقـولـة إلـى الشـــؤون الإنـسـانـيـة، تــجـيـب على ســؤال يـتــعلــق بــعلاقــاتـنـا لـيــس مـع الـمـاضي ولكــن مـع الـمــستـقـبــل. لنـســأل أنفــسـنــا: هـل نـحــن الـيـوم كـمـا كـنــا عـلـيـه قـبـل عـشـر سـنـوات؟  هــذا الســؤال يـفـتح عـلى الـفـور ســؤال إخــر: هــل سنــظــل كـمـا نـحـن الـيـوم عـلـيـه فـي غـضــون سـنــوات قــلـيـلـة؟ نــرى أن الســؤالان مـتـكامـلان.  مـع ذلـك، فـإن الســؤال الأول يتـضـمن إسـتـجابـة فـي شـكل مـلاحـظـة، فـي حيـن أن الإجـابـة للـســؤال الثـانـي لا يـمكـن أن تأخــذ إلا تـوقعـات مبـنـية، فـي أحــســن الأحــوال، عـلى الإســتـدلال بـالـقــيــاس. هــو مــا يـفـتـرض أن الـمســتـقــبل ســوف يـرتـبط بالحــاضــر كـمـا يـرتبط الحـاضـر بالـمـاضــي. مـا يـنطـبـق عـلى الأفــراد فـيـما يـتـعلــق بالـهـويـة ينـطـبق أيـضًا عـلى الـفـئــات الإجتمــاعـيـة، وقـبـل كـل شــيء، عـلى الأمــة. فـي هــذه الحـالـة، يـجـب توضـيـح أن المستـقـبـل يـتـم تصـوره مـن الـناحـية الـنـوعـيــة وبـالـتـالـي لا يـمـكن فهـمـه مـن خـلال الـتـقـنـيات الإحصـائـيـة الـمـستـخـدمـة، ذات الـنـتـائـج المـتـغـيـرة، لـوصف الحـالة الـمـستـقـبـليـة للسـكان أو الإقـتـصـاد. إن المـسـتـقـبـل الـذي سـتـجـســده الأجـيــال الـتـي لـن نـعــود نـحــن أنـفـســنا جــزءًا مـنــها والـتي تـكــون صـلـتــنـا بأجــيــالـنــا هــي الـمــشـكلة عــلى وجــه الـتـحـديــد. لــذا أســلــط الـضـوء عـلى حـقـيــقــة أن "الـتـــراث الـثـقــافــي أصـبـح مـصـدرا لقـضـايـا مـتـنـوعـة كـعــامـل للهــويـة ومـنـشـئ للــروابـط الإجـتــمــاعـيـة ومـحــرك للـتـنـمـية الإقـتـصاديـة".

نــهـار الـتراث ضــروري لأن التـراث هـو مـن مقـومـات الأوطــان مــع الشـعــب والأرض والمـؤسـســات. الـتـراث إن كـان مـاديــاً ، أو معـنـوياً أي غـيـر مــادي، هــو يـوحــد الـشـعـب بـالأرض. مــاذا نفــعــل أفــراد كـنــا أم مــؤسســات ام دولــة لــصــون التــراث ليبــقــى داعــم للهـويــة اللبنــانيــة ! ؟

 

جـوزفـيــن سـلمــان يـمــّـيـن 

أخصـائـيـة فـي عـلـم النـفـس الـعـيـادي والـدعـم الإجتماعي - أخصـائـيـة فـي عــلـم تـعـلــيم الكــبــار (الانـدراغـوجـي)

Add to Home screen
This app can be installed in your home screen