عمليات المقاومة مستمرة وأكثر دقة.. هكذا يغرق نتنياهو في مستنقع رفح
كَتَب المُحرّرثلاثة أسابيع على بدء الهجوم الإسرائيلي على مدينة رفح كانت كافية لرسم مجريات الميدان؛ ولتحدّد لمصلحة مَن تتجه الأمور. فهذا الهجوم الذي طبّل له جيش الاحتلال وزمّر على مدى أشهر، فضح اخفاقات ضباطه وجنوده على محاور القتال التي حاولوا التقدم منها باتجاه شرق المدينة بعد تعرضهم لخسائر جسيمة في الأرواح والآليات. وللتّعمية على فشله في تحقيق الأهداف التي أعلنها قبل المعركة، ارتكب العدو عددًا من المجازر المروعة. وما زاد من سخونة المشهد العملياتي أكثر، أنه ومع إعلانه منطقة شمال قطاع غزة آمنة ومحررّة، حتى عادت خلايا المقاومة الفلسطينية لتخوض أشد المواجهات معه في مخيم جباليا وبيت حانون ملحقةً المزيد من القتلى والجرحى والأسرى في صفوفه. وبهذا تكون المقاومة قد أثبتت أن قطاع غزة المحاصر، من أقصى شماله الى أقصى جنوبه، ما يزال تحت سيطرتها بعد قرابة ثمانية أشهر من القتال المتواصل، وهي مستعدة للدفاع عن أي بقعة فيه.
ما بين تخبّط ويأس وضياع؛ وأمام فشلها وعجزها في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، تحاول "إسرائيل" في العدوان على رفح، والذي بدأته في السادس من شهر أيار/مايو الجاري، إعادة هيبة جيشها المُتعثّر، فمفاجآت الميدان فرضت نفسها على حماوة المشهد لتزيد من الارتباك عند أصحاب القرار داخل المؤسستين السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني. وأظهرت المعطيات الواردة من القطاع أن كتائب القسام وسرايا القدس، ومن معهما، قد أعادوا تنظيم أمورهم في المحاور كلها وفقًا لقاعدة العمل المرن، وبعيدًا عن الأنماط كلّها التي كانت قائمة سابقًا على شكل الهرميات والتشكيلات. وقد تثبّت الجميع من أن وحدة التحكّم والسيطرة تعمل بقوة على صعيد تنظيم أنواع العمليات كلها. وقد أُدخل سلاح المدفعية والصواريخ القصيرة المدى إلى المعركة، حيث نجحت المقاومة في أكثر من موقع، مثلًا نجحت في تعطيل وظيفة القوات الإسرائيلية التي كانت تتمركز في وادي غزة، ومنعت الاحتلال من تثبيت قواعد عسكرية هدفها الفصل بين الشمال والجنوب.
في مجريات الميدان؛ واصلت الأذرع العسكرية لكتائب المقاومة على محاور رفح بالتزامن مع محوري جباليا وبيت حانون شمال القطاع، تنسيق هجماتها المتنوّعة، مدمّرةً عشرات الآليات بالقواذف والعبوات، ومنفذة عددًا من الكمائن القاتلة. وبرز، في هذا السياق، دور عمليات القنص. إذ نفّذ المقاومون العديد منها في مختلف المحاور، وواصلوا دكّ تحشّدات العدو بقذائف الهاون النظامية الدقيقة. أما الحدث الأكبر، والذي زاد من إحراج العدو واستفزازه، فهو تمكّن المقاومة من دكّ المدن والمستوطنات بعشرات الصواريخ. وآخر تلك الضربات، قصفت فيها كتائب القسام، من منطقة التوغل البري في شرق رفح، قلب "تل أبيب". وشهدت محاور شرق رفح زخمًا في عمليات المقاومة؛ حيث اعترف الاحتلال بمقتل ثلاثة من جنوده وإصابة 25 آخرين في المعارك الدائرة في رفح، علمًا أنه ومنذ بدء عمليّاته على هذا المحور، سقط من جنوده 13 قتيلًا، بحسب اعترافاته. كما شهد محور فيلادلفيا شرق رفح مؤخرًا معارك شديدة؛ حيث أعلنت المقاومة تنفيذ تسع مهمات قتالية فيه.
ما زاد من قتامة مشهد العدو الميداني وتعقيداته، أن مخيم جباليا في شمال القطاع، والذي من المفترض أن تكون المقاومة فيه قد أُرهقت وضَعُفت بفعل الهجمات المتكررة عليه، فجّر مفاجأته التي أعلن عنها الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة عبر تنفيذ حماس عملية شديدة التعقيد، تلقى فيها العدو خسارة كبرى. فقد خسر 7 من أفراده، حيث تمكّنت القسام من إيقاع مجموعتين من الجنود الصهاينة بين قتيل وجريح وأسير، ثم أتبع أبو عبيدة خطابه بمقطع فيديو ظهر فيه أحد المقاومين وهو يجرّ جثة أحد الجنود في داخل نفق، قبل أن يُختتم المقطع بعبارة "للحكاية بقية". وهذه العملية النوعية جاءت بعد أكثر من 230 يومًا على بدء العدوان البربري على غزة، في وقت يزعم فيه جيش العدو أنه قضى على كل كتائب المقاومة في القطاع، ما خلا عدة جيوب في شماله وجنوبه، لتؤكد سلامة البناء الهيكلي للقسام، وأن الأخيرة قادرة على تنفيذ عملية أسر بكل ما فيها من تعقيد. في المقابل، ضاعفت المقاومة من جهدها العملياتي على محور بيت حانون أقصى شمال القطاع، حيث أعلنت كتائب القسام قنص ثلاثة جنود من بينهم ضابط وتنفيذ عملية مركّبة عبر إيقاع قوّة صهيونية راجلة قوامها 10 جنود في كمين ليلي بعد استهدافها بعبوة رعدية وإلقاء قنابل يدوية عليها، ثم فور حضور قوة الإنقاذ قاموا بتفجير عبوة "شواظ" فيها.
حال الارتباك هذه، ظهرت بوضوح في عدم قدرة العدو على التمييز بين الأهداف التابعة للمقاومة وبين النازحين المقيمين في المخيمات المؤقتة في رفح ومحيطها؛ حيث لم يجد جيش الاحتلال مؤخرًا طريقة للانتقام من سلسلة الإهانات التي تعرَّض لها في جباليا ورفح وبيت حانون، سوى أن يصبّ أطنانًا من الحمم على رؤوس النازحين والآمنين في منازلهم ومراكز الإيواء والخيم؛ فارتكب مجزرةً كبرى في منطقة البركسات في تل السلطان شمال غرب رفح، أكثر المناطق ازدحامًا بالنازحين، حيث آلاف الخيام المتراصّة، راح ضحيتها 45 مواطنًا وأصيب 249 آخرين، أغلبهم أطفال ونساء، إذ لم تكن، للمفارقة، إلا جزءًا من مشهد المجازر اليومي.
أمام هذا الواقع المرير الذي يعانيه الجيش الإسرائيلي على المحاور كافة، ومع محاولة قواته توسعة عملياتها في رفح، أملًا في إدارة مفاوضات صفقة تبادل الأسرى تحت النار، لا يبدو أن المقاومة الفلسطينية التي أثبتت مجريات الميدان تماسكها أنها في صدد تقديم تنازلات. وبهذا يكون الميدان قد فرض معادلات جديدة، بات على "إسرائيل" تقبّلها والتعامل معها بمنتهى الواقعية بعيدًا عن أي نُزُق أو طيش، وبات عليها أن تعلم أن "روما من فوق غير روما من تحت".