مرفأ طرابلس: رحلة طويلة من التهميش إلى العالمية
27 شباط 2023

مرفأ طرابلس: رحلة طويلة من التهميش إلى العالمية

عبد الكافي الصمد

يروي القيادي السّياسي توفيق سلطان، نجل رئيس بلدية طرابلس الأسبق راشد سلطان، أنّ والده زار مع وفد من فاعليات المدينة رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون في خمسينيات القرن الماضي، من أجل إقناعه بتخصيص أموال لتطوير مرفأ طرابلس، وتحويله من ميناء بسيط لاستقبال السفن التجارية الصغيرة إلى ميناء كبير، محلي وإقليمي في المرحلة الأولى، ودولي في المرحلة الثانية، فكان ردّ شمعون على الوفد الطرابلس: "عندما يُدشّن الحوض العاشر في مرفأ بيروت سندشن الحوض الأوّل في مرفأ طرابلس".

يعكس جواب شمعون نمطاً من تعامل الدولة اللبنانية مع طرابلس قائم على التجاهل والحرمان، وعلى أنّها مدينة من "الدرجة الثانية" وليس "العاصمة الثانية"، وذلك منذ ولادة "لبنان الكبير" عام 1920 وما بعد استقلاله عن فرنسا عام 1943، وصولاً إلى نهاية الحرب الأهلية عام 1990، بعد 15 عاماً من الدّمار والقتل والتهجير، وانهيار البلد على كلّ الصّعد.

هذا النمط من التعامل مع طرابلس تعكسه مداولات ونقاشات جرت قبل وخلال وبعد إعلان دولة لبنان الكبير، إستحوذ ضمّ طرابلس إليها حينها جزءاً كبيراً من المداولات والنقاشات، إلى أن استقر الرأي على ضمّ المدينة إلى الكيان الجديد  لهدفين: الأوّل حرمان سوريا من مرفأ بحري كان سيكون الأوّل فيها لأن مرفأي اللاذقية وطرطوس كانا حينها مرفأين صغيرين لا يلبيان حاجة الدّولة السّورية، التي خسرت أيضاً مرفأ بيروت الذي كان يعتبر مرفأ دمشق، بسبب قربه منها، والدّولة السّورية معاً.

أمّا الهدف الثاني من التعاطي بإهمال وحرمان مع طرابلس فيعود إلى أنّ الطبقة السّياسية حينذاك، والبرجوازية الإقتصادية الناشئة حولها، كانت تعتبر بأنّ مصلحتها حصر الإستيراد والتصدير البحري بمرفأ بيروت دون غيره، وكان لها ما أرادت. وهكذا، وبدل أن تكون طرابلس ومرفأها رأساً في الدّولة السّورية، تحوّلت إلى ذَنَبِ في الكيان اللبناني الوليد.

إستمر هذا التهميش لمرفأ طرابلس إلى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) حيث ضغط سياسيو وفاعليات المدينة على الدّولة اللبنانية لدفعها من أجل إيلاء المرفأ إهتماماً أكبر من السّابق، كونه كان يُشكّل مع مرافق أخرى قاعدة أساسية للنهوض بالمدينة والشّمال كلّه، إلى حدّ أنّ رئيس الحكومة الراحل عمر كرامي كان يردّد دائماً مقولة "الميمات الخمس"، أي خمس مرافق تبدأ بحرف الميم، وهي مرفأ طرابلس، معرض رشيد كرامي الدولي، المنطقة الإقتصادية الخاصّة، مصفاة البداوي ومطار رينيه معوض في القليعات، وكان يقول: "إذا نهضنا بهذه المرافق كما يجب فإنّها ستؤمّن فرص عمل للآلاف، وأنّه لن نجد بعدها عاطلاً عن العمل".

أسهم طيّ صفحة الحرب الأهلية وبدء البلد صفحة جديدة بعد اتفاق الطائف، في إيلاء حكومات متتالية مرفأ طرابلس وسواه من المرافق إهتماماً أكبر من السّابق، ومع أنّه لم يكن إهتماماً على قدر آمال وخطط وُضعت لتطوير المرفأ والنّهوض بالمدينة، إلّا أنّ عملية التطوير هذه راكمت إيجابيات كانت تتبلور مع الوقت، من تعميق عمق المرفأ بحيث أصبح قادراً على استقبال جميع السّفن، بما فيها السفن الضخمة وسفن الحاويات، واتساع حوضه وأرصفته، وصولاً إلى وضعه على خارطة الموانىء العالمية المعتمدة من كبريات شركات النقل البحري، ما جعله يؤمّن مدخولاً مالياً هاماً لخزينة الدولة، زاد عام 2021 على 52 مليار ليرة لبنانية.

هذا التطوّر الملحوظ في نشاط مرفأ طرابلس، وتحوّله إلى ركيزة أساسية للنّهوض بالمدينة وبالإقتصاد الوطني، شهد يوم الأربعاء الماضي، في 22 شباط الجاري، خطوة إضافية دفعته قدماً إلى الأمام، تمثلت في حفل إطلاق "مزايدتي الإهراءات والحوض العائم"، والإعلان أنّ فضّ العروض لهما ستكون في شهر آذار المقبل.

في ذلك الحفل أكّد مدير المرفأ أحمد تامر أنّ "مرفأ طرابلس بات يُشكّل مصدراً مالياً كبيراً للدولة اللبنانية، بفضل الدعم الذي يلقاه، وأصبح ينافس المرافىء المحلية والعربية والعالمية"، قبل أن يكشف راعي الحفل وزير الأشغال العامّة والنقل في حكومة تصريف الأعمال علي حمية، بأنّ الإهراءات في مرفأ طرابلس خُصص لها مساحة تقدّر بنحو 36 ألف متر مربع، وبقدرة إستيعابية تبلغ 120 ألف طن (توازي القدرة الإستيعابية لمرفأ بيروت)، لتأمين الأمن الغذائي". مضيفاً أنّ المزايدة الثانية المعنية بإنشاء الحوض العائم لصيانة السفن، فأنّها "تؤدي على المدى البعيد لاستقطاب العديد من الشّركات الكبرى العالمية ما سيؤدي إلى تأمين مزيد من فرص العمل، ليكون حوضاً عائماً لصيانة السّفن على مستوى عالٍ من التكنولوجيا".

فضلاً عن ذلك، فإنّ مرفأ طرابلس ينتظره دور بارز في خطط إعادة إعمار سوريا، واعتماده كمنصّة رئيسية في هذا المجال. وإذا ما أضيف إلى ذلك إحياء خط سكك الحديد الذي يربط بين المرفأ والحدود السورية، الذي وضع حجر الأساس له عام 2003 الرئيس نجيب ميقاتي حينما كان عامها وزيراً للأشغال العامّة والنقل، مع نظيره السوري، من غير أن يبصر المشروع النّور، فإنّ الآمال معقودة لأن يكون هذا الخط جاهزاً مع انطلاق صافرة إعادة إعمار سوريا، ليقطف مرفأ طرابلس حقّاً غاب عنه قرابة قرن كامل من الزمن.

Add to Home screen
This app can be installed in your home screen