الهويةُ اللبنانية والنزوح السوري عنصريةٌ لا تخدم الحل
كتَبَ المُحَرّر يصفُ المفكرُ والباحثُ الإيراني داريوش شايغان الهويّة، أنها عبارةٌ عن صورةٍ مغلوطةٌ للذّات. وصفُه هذا يخدمُ رؤيته المفتونه في الطبيعةِ الغربيّة للهوية بإعتبارها ذات إمتدادٍ أفقي وليس عامودي يتّصلُ بتاريخِ الفردِ والأمّة وقد عبّر عن ذلك في كتابِه "أوهامُ الهوية".
أوهامُ الهوية في لبنان لها طابعٌ فريدٌ يتميزُ بعدم الإستقرار المرتبط بالنّزاعاتِ الإقليميّة ومصالحٌ سياسيّةٌ وإقتصاديّةٌ ماليّة بالدّرجة الثانية، وهي غير مفهومة البتة وضبابية ولعلّ أبرز سماتها هي سرعة تبدّل صورة هذه الهوية في العقلِ الجماعي الشّعبوي.
إنقسمَ لبنان أفقياً حول أزمةِ اللجوء الفلسطيني التي بدأت عام 1948 ما أطلقَ العنان لحربٍ أهليّةٍ بين اللبنانيين أنفسهم تحت عنوان خطرُ التّغيير الديموغرافي على الهوية اللبنانية، وما يتبعه ذلك من تبدّلٍ في دور لبنان على صعيد الصّراع القائم في الإقليم. وفي السّياقِ نفسه إنتفضَ جزءٌ من اللبنانيين في تسعينيات القرن الماضي ضد تملّك المواطن الخليجي في المناطق اللبنانية ذات الطّابع المذهبي الواحد وإنتشرت حالةٌ من رُهابِ الأسلمة، لتعودَ في وقتٍ لاحق هذه الفئة نفسها وتتباكى على فرارِ المستثمر الخليجي نتيجة حصارٍ إقتصادي وسياسي يتعرض له لبنان كثمنِ خياراتٍ سياسيّةٍ تتعارض مع مصالح الغرب في المنطقة.
عام 2011 تغير مفهوم الهوية في لبنان خدمةً لمآربَ سياسيةٍ خبيثةٍ داعمةٍ للمؤامرة التي تستهدف سوريا، فإنخفض منسوبُ العنصرية في لبنان تجاه المواطن السّوري وإختفت مخاوفُ التغيير الديموغرافي ورهاب الأسلمة وفتح اللبنانيون مناطقهم للنّزوح السّوري، ولا بد من الإشارة الى أن إستعمال كلمة لبنانيون لا تعني التعميم المطلق والإجماع إنما هي للإستدلال على السياسات العامة المسيطرة في تلك الفترة حيث حرضت قوى وقيادات سياسية لبنانية علناً على نزوح السّوريين ومعاداة وطنهم ودولتهم، بل وشارك بعضها في عمليات تسليح وتآمر وتخطيط.
عام 2024 ومع التيقن من فشلِ مشروع إسقاط سوريا، بلغ الخطاب العنصري ذروته تجاه النّزوح السّوري في لبنان مترافقاً مع جملة إجراءاتٍ عملانية تهدف للتّضييق عليهم والإساءةِ إليهم على المستوى الإنساني بالدرجة الأولى ولينساقَ عددٌ كبيرٌ من اللبنانيين في موجة الخطابِ العنصري المريض، حتى باتوا يتسابقون على من يظهر خطاباً أشد نازية من الآخر.
الحلول المطروحة لمسألة النّزوح هي بحد ذاتها مريضة بحيث تجد من يريد التخلص من عبء النّزوح عبر فتح الهجرة البحرية غير الشّرعية، ليجبر الإتحاد الأوروبي على دفع المزيد من المال للحد من هذه الهجرات، ساعياً لنيل مراده على حساب جثثِ الشّعب السّوري التي ستطفوا على سطح مياه البّحر نتيجة فوضى الهجرة التي ستحدث . في حيث أنّ عدم إنسانية الرؤى الأخرى تتجسّد بعدم وجود خطّةٍ فعلية لحل مسألة النزوح فتتسابق بعض الجهات الرسمية على إصدار بياناتٍ تتناول مسألة الوجود السوري بشكلٍ سطحي وعنصري حتى وصل ببعض البلديات أن ترسم حدوداً زمنية لإعلان مناطقها خالية من الوجود السّوري وكأنها تعلن السيطرة على وباءٍ قاتل.
أليس منكم رجلٌ رشيد؟ لا صوتَ للعقل يُسمع ضمن جلَبةِ الجنون العنصري والفوضى ، حتى أنّ النّازح السّوري نفسه بات يعتقدُ أن الحل إما يكون بالسماح بالتواجد الفوضوي أو فتح المنافذ البحريّة للهجرة غير الشرعية، في حين أن الحلول الحقيقة مرهونة بإعتناق أفكار وعقلية مختلفة تأخذ بعين الإعتبار مصالح الشعبين اللبناني والسوري. وأول بشائر العقلانية في الحل هي التواصل الجدي مع الدولة السورية للتنسيق السّياسي والأمني وضبط الحدود، ليس إيماناً بفكرة الحدود نفسها، (عارضة حديدة بين قرية العريضة في شمال لبنان وقرية عرب الشاطئ في جنوب السّاحل السّوري لا تصنع حدوداً حقيقية إنما هي وهمٌ يشبه أوهام الهوية اللبنانية) بل للحد من أثر سياسات الحصار على سوريا الهدافة الى إفراغ سوريا من طاقاتها البشرية والمالية وتحويلها لدولة عاجزة عن النهوض بنفسها. فطالما أن سوريا ترزح تحت حصار وعجز عن النهوض الإقتصادي والبشري فإنه لا مفر للشّعب السّوري إلا بمزيد من موجات النّزوح نحو لبنان وغيره من الدول.
لبنان بجب يدرك أن إستمرار في مراعاةِ سياساتِ الحصار على سوريا ستحولُ حُكماً دون معالجة أزمة النّازحين السّوريين، ليس لأن الدولة في سوريا تطلب ثمناً سياساً مقابل قبول عودة الشّعب السّوري النّازح إليها كما بات يُشاع زوراً بين الأوساط اللبنانية، إنما لأن قدرة سوريا على الإيواء محدودةٌ في ظل فرملة مشاريع إعادة الإعمار، حيث أنه يلزم لعودة النّازحين السّوريين الى أرضهم توفر عشرات آلاف من الوحدات السّكنية، وهو الأمر غير الممكن في ظل الحصار الواقع على سوريا.
أكثر من ذلك، إنّ حل أزمة النّزوح يتطلب تبدلاً في عقلية النّازح السّوري نفسه، ليدرك أن العمل المستمر لسلخه عن هويته السّورية الحقيقية وإستبدالها بهويةٍ هي أقرب إلى اللا هوية تحول دون أن يعيشَ بحالةٍ من الإستقرار الضروري لتقدم المجتمعات، وسيفقد النّازح السّوري فرصة سلوك مسار التّطور الطّبيعي للمجتمع لأجيالٍ عديدة، فالنّازح العائد إلى سوريا سيبقى له فرصة أن ينهض بنفسه أو لاحقاً بأولاده لتحقيق فرص حياة أفضل، فالمعتاش من مهنةٍ بسيطةٍ يملك فرصة ما أن يدفع بأولاده نحو درجاتٍ أعلى في السّلم المهني والمعرفي والإقتصادي وقد يكون إبنه في يومٍ من الأيام طبيباً أو مهندساً أو موظفاً ، وإن تأخر هذا التطور المهني والإقتصادي، فإنه قد يتأخر جيلاً أو إثنان ولكن في النهاية المسار التطوري التّصاعدي مضمون. أما في حال بقاء النّازح السّوري في لبنان أو الأردن أو تركيا فإنه سيخلّف وراءه فقط أجيالاً من النّازحين ، ولو سلّمنا أن بعض النازحين تمكنوا من تأمين تحصيل علمي متقدم لأولادهم فإنهم سيعجزون عن دمجهم بسوق العمل بشكلٍ حقيقي وسيكونوا مستخدمين في مؤسسات البلد المضيف وعرضةً أكيدةً للإستغلال نتيجة سياسات حماية اليد العاملة الوطنية، والمثال واضحٌ في المخيّمات الفلسطينية في لبنان حيث آلاف المتخرجين من الجامعات ينتهي بهم الأمر في مهنٍ لا تمت لتحصيلهم العلمي بصلة ومحاصرين إقتصادياً في سوق العمل، لتبقى حالة المخيّمات الفلسطينية الإجتماعية على حالها، لجوءٌ ينتج مزيداً من اللاجئين المولودين في أرضٍ ترى في السّياسات العنصرية خلاصاً من أزماتها دون أن تنال الخلاص.
إن تحكّم وهم الهوية اللبنانية في سياسات الحكومة اللبنانية المسايرة لأفكار يمينية نازية إنعزالية ستبعد فرص الحل الناجح، كما أن غضّ النظر عن مخاطر المعالجات العنصرية الشّعبوية السّائدة حالياً سينتج شرخاً عميقاً بين المواطن اللبناني والنّازح السّوري، ما يسهل على تنظيماتٍ إرهابية ورعاة مشاريع فتنوية أن تتلقّفَ هذا النّازح واستغلاله بمشاريع خطيرة لا تقيم إعتباراً لا لهوية لبنانية ولا لهوية سورية. وقد يكون مستقبلاً دماء الشعب السوري واللبناني ثمناً لجنون اليوم.