القرون الوسطى القواتية... طرح انتخاب رئيس جمهورية من بكركي
د. طارق مفيد المبيضسبقت حكمة بكركي "جنون الصبا" عند حزب القوات اللبنانية. البطرك الراعي الذي يفهم الحياة السياسية اللبنانية جيداً رفض أن ينساق للطرح الذي يقضي باجتماع في صرحه البطريركي يضم النواب المسيحيين فقط لاختيار رئيس للجمهورية، يتم تنصيبه بمراسم انتخابية احتفالية في مجلس النواب فيما بعد. الطرح جاء بعد عملية حسابية اجرتها القوات اللبنانية أثبتت استحالة أن تقدر "الجبهة السيادية" على فرض اسم لموقع رئاسة الجمهورية، اذ لا تملك هذه الاحزاب أكثر من 40 نائباً يشكلون اقل من ثلث المجلس النيابي، لذلك رأى مطبخ معراب السياسي أن الخيار الوحيد لفرض رئيس من هذه الجبهة هو أن يقسم المجلس النيابي الى قسمين، القسم المسيحي الذي يتألف من 64 نائباً والذي يناط به انتخاب الرئيس، والقسم الاخر الذي يضم 64 نائبا مسلماً ومهمته هو تأمين النصاب والموافقة على مقررات اجتماع بكركي. وبذلك تستطيع القوات اللبنانية أن تفرض اسم رئيس للجمهورية ضمن النواب المسيحيين الذين يغرد اكثر من نصفهم في سرب يضم القوات والكتائب وميشال معوض والتغييريين.
هذا الطرح "الحسابي" الذي أراد أن يستغل موقع بكركي لفرض ارادة سياسية تحرج الاطراف الاخرى المسيحية منها والمسلمة، وعلى الرغم من سطحيته، الا أنه يشي بصورةٍ بدأت تتوضح لدى بعض اللبنانيين، وهي صورة متكاملة الاجزاء، تبدأ من نظرة الى الكيان اللبناني على أنه أصبح من الصعب التعايش بين مكوناته، وهذا الطرح لم ينكره حزب الكتائب اللبنانية تصريحاً، ولا حزب القوات اللبنانية تلميحاً في اكثر من مناسبة، مروراً بصور أخرى تجذرت في المشهد اللبناني عبر متلازمة "الدور الوطني للمرجعيات الدينية"، ومراسم الحج التي يقيمها الزعماء السياسيون اليها عند كل استحقاق، وصولاً الى مشهدية الحركات الاصولية التي تفرِّخُ في اكثر من منطقة لبنانية وتستحضر صور القرون الوسطى الاوروبية وكان آخرها ظاهرة جماعة جنود الرب في الاشرفية.
واذا كانت تلك الحركات الاصولية التي ترفض الاخر، وتأبى ان تعيش معه تحت سقف واحد بالامكان فهمها في اطار تنامي اليمين الاسلامي والمسيحي في السنين العشرين الاخيرة، ويعتبر سلوكهم منسجماً مع خطابهم العام، فان اللوم يقع بطبيعة الحال على حزب القوات اللبنانية الذي رفع منذ سنة 2005 تاريخ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري شعار الحرية والسيادة والاستقلال، وشعار بناء الدولة، والوحدة الوطنية، بل تقدموا في طرحهم ليصل الى المطالبة بدولة مدنية حداثية، وباستعادة دور لبنان الريادي في المنطقة، وزادوا من نبرة خطابهم ليأكدوا على الخطئية التي ارتكبها حزب الله بعزل لبنان عن محيطه العربي، وهذه النقطة يمكن للقارئ تفهمها بطبيعة الحال، لكنه يُصدم عندما يرى ان هذا الفريق الذي يدعو لاعادة وصل ما انقطع بين لبنان والعرب، يعملون على قطع ما هو موصول ايضاً بين اللبنانيين في كل المجالات، واصرارهم على تقسيم البلد الى كنتونات طائفية ضيقة منفصلة عن بعضها البعض، واذا عجزت فانها مصرة على "جرم" الدستور والدولة، وسلخ جلد القوانين وتفصيلها لتكون على مقاس مشروعهم السياسي -اذا امكن ان نسميه سياسياً-.
مشكلة معظم من يعملون في الحياة السياسية اللبنانية هو اعتقادهم بأن صعودهم السياسي والحفاظ على شعبيتهم لا يكون بتقديم الافضل على مستوى المشروع الوطني، فجمهورهم لا يتعدى الحيز الجغرافي او الطائفي الذي يعملون به، وهذه قضية ليست مجالا للبحث هنا. ولكن ما هو مستعجل البحث به هو أن الطرح الذي يقضي بأن ينتخب كل فريق طائفي الموقع المخصص له بالسلطة يطرح مخاوف من ان تنتقل العدوى الى المكونات السياسية الاخرى للدعوة بأن ينتخب النواب الشيعة رئيس مجلس النواب، والنواب السنة رئيس الحكومة، وتسير الامور بهذه الطريقة، وبذلك تنخلع عرى التعاون والتضامن بين المكونات السياسية، لنسقط في درك اسفل في النظام السياسي، وهو الحروب والمعارك الداخلية داخل كل طائفة لانتخاب موقعها، وانتظار سنوات طويلة حتى تتفق فيما بينها لتنجز استحقاقها.
يقال ان الطرح السطحي لا يستحق ان النقاش، لكن فليخبرنا احدهم ما هو الطرح العميق الذي تقدم به فريق سياسي ما على الساحة السياسية خلال السنين السابقة، وليخبرنا أيضاً عن كم الطروحات السطحية التي اخذت حيزاً كبيرا من النقاش في وسائل الاعلام والتي ناقشها نواب الامة وصحافيون من المفترض ان يكون قادرين على تقديم طروحات مفيدة، وليس ان يكونوا مجرد صدىً لطروحات فريق سياسي، او لوبي مالي يمسك بزمام الدولار والليرة.