نداء الوطن _ مكبّ نفايات زغرتا: سرّية وعشوائية وأضرار بالجملة
كارين عبد النورهذه قصّة مكبّ نفايات قضاء زغرتا العشوائي في بشنين. قصّة تهديد مستمرّ لنهر قاديشا / أبو علي كما للبحر الأبيض المتوسط. لا بل قصّة خطر جدّي يفتك بصحّة أهالي المنطقة وسكانها. منذ 2019، ووسط تعتيم كامل، تُرمى نفايات القضاء على ضفاف النهر حتى باتت تشكّل جسراً تمرّ المياه تحته. محاولاتنا لأسبوعين التواصل مع وزير البيئة، ناصر ياسين، قوبلت بالتجاهل. وهو، للأسف، تجاهل المسؤولين المفترضين المباشرين عن معالجة قضايا – جرائم كثيرة. فإلى متى العبث بحياة اللبنانيين بيئياً؟
عام 2018، وضعت بلدية زغرتا خطة لتحويل مشكلة النفايات في المنطقة إلى فرصة. فرصة للاهتمام بالنظافة العامة والبيئة وعدم هدر الموارد. وتمكنت من بلورتها بشكل جدّي بعد أن تمّ التعاون مع خبراء من جامعات محلية وأجنبية. أما الهدف، فكان إيجاد سُبل إدارة متكاملة لملف النفايات تشمل ليس قضاء زغرتا فحسب، إنما قضائيّ بشرّي والكورة أيضاً. وهدفت الخطة إلى إنشاء مركز معالجة كامل للنفايات بعد فرزها من المصدر وإعادة فرزها وتسبيخ الصلب منها ومعالجة النفايات الإلكترونية كذلك. ذلك بهدف التخلص من أكبر كمية ممكنة من المواد العضوية وإنتاج سماد طبيعي، خصوصاً وأن الأقضية الثلاثة تعتمد على الزراعة، ما يمكّنها من الاستعاضة عن استيراد الأسمدة الكيماوية بالكومبوست الناتج عن تخمير البقايا.
لكن، بعد أن تمكّنت بلدية زغرتا من وضع هذه الاستراتيجية وتوصلت لطرح حلول ممتازة - لا سيّما وأن مكبّ طرابلس (حيث كانت تُرسَل نفايات المنطقة) قد تجاوز قدرته الاستيعابية - وقُبيل البدء بتنفيذ الخطة، «قرّر أحدهم كفّ يد البلدية عن الملف وحصر دورها بجمع النفايات، في حين أصبح اتحاد بلديات قضاء زغرتا المسؤول عن المعالجة، كجائزة ترضية لبعض الجهات»، بحسب مصادر بلدية زغرتا. تلا ذلك مجموعة الاستقالات داخل البلدية وتلاحقت الأزمات التي عصفت بالبلد، فتوقّفت عمليات الفرز ولم يصَر إلى استكمال آلية الإدارة الصحيحة المخطّط لها. فتحوّل مكبّ نهر قاديشا إلى مكبّ عشوائي في ظلّ غياب أي سياسة حكومية أو وزارية لمعالجة الخطر الداهم وإيجاد الحلول البديلة.
«جبل» تلوّث... نهريّ
لمزيد من التفاصيل، تواصلت «نداء الوطن» مع رئيس جمعية «الأرض – لبنان»، بول أبي راشد، الذي أكّد أنه ورد إلى مسامع البعض، سنة 2019، أن النفايات المتراكمة في إهدن وزغرتا قد جرى نقلها إلى ضفاف نهر قاديشا في منطقة بشنين. «بعدها انقطع الحديث عن الموضوع إلى أن وصلتنا منذ فترة بعض الصوَر من أحد الناشطين البيئيين الذين نتعاون معهم في الأقضية لمراقبة المناطق الحساسة بيئياً. وكان ما رأيناه صادماً، حيث أظهرت الصوَر جبلاً من النفايات المتراكمة يمرّ النهر داخله، ما يعني أن التلوّث لا يصيب النهر وحرمه فقط، إنما مياه البحر المتوسط الذي يعاني أساساً من تراكم النفايات البلاستيكية، أيضاً». هذا المكبّ العشوائي، الذي يُستخدم سرّاً منذ 2019، يهدّد منطقة حساسة بيئياً تجب حمايتها. ونتكلم هنا عن نهر قاديشا، أحد أهم أنهر لبنان. فهو ينبع من مغارة قاديشا ويمرّ بعدّة مناطق لبنانية سياحية قبل أن يصل إلى طرابلس، حيث يصبح اسمه نهر «أبو علي».
أبي راشد حمّل، الجهات المعنيّة كافة، مسؤولية ما يحصل. وأشار إلى عدم إمكانية القبول بهذا المكبّ، من جهة، وعدم إمكانية إبقاء نفايات المنطقة بلا حلّ جذري، من جهة أخرى. «نحن لا نبرّئ البلديات من مسؤوليّتها لكن كيف لنا أن نجلدها في حين أن وزارة البيئة تمارس سياسة التجاهل ولا تساعد حتى في إيجاد حلول مستدامة؟ بإسمي وبإسم الجمعية البيئية التي أرأس، نعلن عن استعدادنا للمساعدة في إيجاد حلول بديلة ومعالجة الوضع. فالأخطار التي تهدّد تلك المنطقة المشهورة بزراعة الزيتون جدّية، هذا عدا عمّا يحدثه احتراق النفايات البلاستيكية من انبعاثات لمادة الديوكسين المضرّة بصحة الإنسان».
إقصاء... تفاهم وقرار
محطتنا التالية مع رئيس اتحاد بلديات الكورة، ربيع الأيوبي، الذي فضّل عدم التطرّق إلى المسألة معتبراً أن كافة البلديات تعاني من أزمة مالية غير مسبوقة وأن المسؤولية تقع على الدولة أولاً وأخيراً. لكنه لفت إلى أن كافة مكبّات النفايات، على كافة الأراضي اللبنانية، هي غير بيئية وغير شرعية، في حين أن البلديات عاجزة عن القيام بأي خطوة طالما أن وزارة البيئة عاجزة عن فرض مكبّات شرعية ومستدامة في أماكن صحيحة، بعد تأمين العزل الكافي لها.
لكن لماذا تمّ اختيار نهر قاديشا / أبو علي تحديداً لرمي نفايات قضاء زغرتا عشوائياً؟ مصادر متابعة للملف تذكر خمسة مواقع كانت مقترحة فعلياً داخل القضاء، وسادساً خارجه. لكنها ووجهت جميعها برفض قاطع من قِبَل السكان إذ لم يصَر إلى التمهيد لانتقاء المواقع بشكل تفاعلي مع القوى الفاعلة ولا حتى مع القاطنين في الجوار. «هي مسؤولية مجلس الإنماء والإعمار الذي أخذ على عاتقه تأمين استملاك العقارات المطلوبة لإنشاء مكبّات ومطامر صحية فوقها. وبعد أن سقطت كافة الخيارات وفشلت جميع المحاولات، اتُّخذ قرار سياسي بإنشاء هذا المكبّ على أرض بعيدة عن السكان، فجرى الاتصال بأحد الأديرة المالك الأرض، واستؤجرت من الرهبانية التابع لها».
تجدر الإشارة إلى أن ما كان مقرّراً هو استخدام الموقع كمنصّة لإعادة ترحيل النفايات إلى مطامر أخرى بعد ضغطها وضبطها ولفّها. لكن، على ما يبدو، وفي ظل وضْع السياسيين وبعض زعماء المنطقة يدهم على الملف، تحوّلت ضفاف النهر إلى مكبّ عشوائي «تزيّنه» كافة أنواع الملوّثات والأخطار. «لم تحصل محاولة جدية لاستباق القدرة الاستيعابية للمكبّ. وكلما حاولت بلدية زغرتا الاستفسار، جاء الجواب إقصائياً. وكأن ثمة قراراً على مستوى بلدية معيّنة أو حتى رؤساء بلديات، أو ربما تفاهم بين أحد هؤلاء ورئيس الاتحاد الذي يتحمّل وحده مسؤولية إدارة المكبّ»، بحسب المصادر نفسها.
حاولنا... ولكن
إلى رئيس اتحاد بلديات قضاء زغرتا، زعنّي خير، الذي أوضح عبر «نداء الوطن» أن أزمة النفايات في قضاء زغرتا والأقضية المجاورة هي أزمة مستجدّة بعد أن توقفت شركة «سوكلين» عن جمع النفايات. «عندها بدأت البلديات بإرسال نفاياتها إلى مكبّ «عدوى» إلّا أن إقفاله فاقم المشكلة. فعمد اتحاد بلديات قضاء زغرتا إلى تنفيذ مشروع فرز النفايات من المصدر وحقق المشروع نجاحاً كبيراً، قبل أن يتراجع بسبب جائحة كورونا والأزمة المالية». لكن ما الذي حصل بعدها؟ بحسب زعنّي، تمّ التوقيع مع الاتحاد الأوروبي على هبة لإنشاء معمل فرز وتسبيخ وطمر لقضاء زغرتا يشكّل حلّاً جذرياً ومتطوراً لمعالجة ملف النفايات، وتمّ استئجار أرض لإنشاء هذا المعمل، لكن، وبعد انتظار دام خمس سنوات، سحب الاتحاد الأوروبي الهبة وأوقف المشروع عازياً السبب إلى عدم نجاحه في مناطق أخرى. «في هذا الوقت تراكمت النفايات المرمية عشوائياً على أطراف الطرقات ما شكل خطراً على الصحة العامة دفع إلى التوجه لهذا المكبّ كأمر واقع وحل مؤقت لرفع الضرر عن المواطنين».
من جهة أخرى، أشار زعنّي إلى أن الاتحاد طرق كافة الأبواب من رئاسة الحكومة إلى الوزارات المعنية بهدف إيجاد حل للنفايات، لكن دون جدوى، ما دفع البلديات إلى استخدام هذا المكبّ العشوائي كأمر واقع، في ظل غياب أي دراسة بيئية، بانتظار الوصول إلى حل شامل وجذري. لكن ألا يعدّ ما حصل جريمة بحق البيئة؟ «المكبّ وُجد بفعل تراكم النفايات على الطرقات وبين المنازل، وبذلنا كافة الجهود مع رئاسة الحكومة ووزارة البيئة وكل الوزارات المعنية لرفع الضرر، لكن دون نتيجة. فهل يكون الحلّ في إبقاء النفايات في الأزقة وعلى أطراف الطرقات؟ البديل لن يكون إلّا عبر إنشاء معامل فرز وتسبيخ وإعادة تدوير ومطامر صحية أو عبر المحارق، وهذا الأمر يعود إلى الوزارات المعنية ومجلس الوزراء أو عبر تلزيم رفع النفايات أسوة بمناطق يتم تلزيم نفاياتها من الصندوق البلدي المستقل».
الجميع مسؤولون
نعود إلى بلدية زغرتا ونسأل إن كان التصدّي لهذه الجريمة ما زال ممكناً أم أن السيف قد سبق العذل. «نؤمن أنهم لو سمحوا لنا بالتعاون لكنّا عالجنا الموضوع بطريقة مختلفة، لكن لم يكن هناك انفتاح على أي حل بديل. ذلك أن بعض المسؤولين عن المكبّ، باتوا يستنفذون طاقات القيّمين السياسيين والقيادة السياسية المحلية ويمارسون الابتزاز بالأموال دون تحقيق نتائج ملموسة. وهنا يتحمّل الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية مسؤولية عدم محاسبة من يضعهم في سدّة المسؤولية وعدم ضبطهم بما يكفي».
قد تكون الحلول التقنية متاحة للحدّ من الأضرار، لكن يبقى الأساس في القرار السياسي وتأمين الموارد المالية الكافية لرفع الضرر المتراكم وإيجاد حلّ مقبول اجتماعياً وبيئياً واقتصادياً. وهنا يأتي دور وزارة البيئة في المقام الأول، إذ إن الملفات البيئية لا يجب التعاطي معها كمجرّد ملفات إعلامية، بل هي تستلزم معالجة إدارية لا ورقية. وهكذا، يحقّ للمواطن أن يسأل وزير البيئة عن المشروع الذي تعهّد به أمام اللبنانيين بعد تولّيه الوزارة سنة 2021، والذي ينصّ على مكافحة المكبّات العشوائية في مناطق محدّدة في شمال لبنان وجنوبه.
وتكرّ الأسئلة: أين أصبح تطوير منظومات النفايات الصلبة في هذه المناطق الخدماتية، وماذا عن الدراسات المفصّلة لمواقع التخلّص من النفايات الصلبة في مختلف المناطق اللبنانية؟ وهل للمواطن أن يطّلع على الجدوى الفنية والمالية للأنشطة المزمع تنفيذها ضمن استراتيجية وزارة البيئة من أجل إدارة كاملة للقطاع؟ وفي السياق، لا بدّ من التعريج على مبلغ المليونين ونصف المليون دولار الذي وعد به مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية (OMSAR) لإنشاء مركز معالجة لنفايات قضاء زغرتا. فالقضاء ما زال ينتظر.
الأسئلة المشروعة برمّتها تبقى برسم المسؤولين علّهم يكسرون قرار الصمت ويخرجون على الناس بإجابات. في الأثناء، وبعد أن تواصلت «نداء الوطن» مع محافظ لبنان الشمالي، القاضي رمزي نهرا، وعد (مشكوراً) بمتابعة الملف جدياً عبر التواصل مع القائمقامية والقوى الأمنية لمعالجة الوضع الذي وصفه بـ»الشاذ» في نهر قاديشا. ولعلّ ما أثير من معطيات أن يضع المسؤولين أمام واجباتهم، خصوصاً وأننا على أبواب فصل الصيف. فمن يضمن، على أقلّ تقدير، السيطرة على أي حريق قد ينشب في المنطقة نتيجة تراكم النفايات البلاستيكية في المكبّ؟