طوفان الأقصى ويوم القدس: اسرائيل الى زوال
كتب المحررطوفان الأقصى ليس مجرد "هبّة" كما كان بعض الأدبيات الإعلامية يطلق عليها في وصف عمليات الانتفاضة ضد الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلة، خصوصاً في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، وهو ليس ردّة فعل ناتجة عن فعل احتلال مع ما يعني هذا المصطلح من قمع وقتل وتشريد ومصادرة أراضٍ واعتقال وتعذيب في زنازين القهر، كما أنّه ليس مجرّد حركة عفوية لشعب سئم حاله القابعة تحت الاحتلال فاندفع إلى المواجهة بما تيّسر له من أدوات قتال وأساليب مقاومة، بل هو مشروع بُني في الأساس على نظرية فكرية – جهادية قائمة على مبادئ مستمدّة من انتماء تتكامل فيه ثوابت المواطنة والعقيدة الدينية الرافضة للذل والارتهان.
في المقابل ينطلق الاحتلال الصهيوني في تكريس عدوانه وسياسته الإرهابية في القتل والاستباحة للبشر والحجر من نظرية قائمة على مبدأ الاستيطان، وهي نظرية يثبتها التاريخ في تجارب القوى الكبرى ذات الأهداف التوسعية التي بسطت هيمنتها بالقوة والقهر بناءً على دوافع اقتصادية، تطوّرت وفق منظورها الثقافي الخاص إلى "منظومة اجتماعية" تؤمن بالقتل كوسيلة لفرض الوجود الاحتلالي، ودون أن تقيم وزناً للقيم الإنسانية والأخلاقية، فالهدف هو إقامة نظام تدين له الشعوب بالخضوع والاستسلام، وترتضي لنفسها أن تكون مرتهنة للاحتلال فتسير في سياق الركون دون كرامة أو احترام لكيانها الذاتي.
هذه المقابلة بين النظريتين تجد ترجمتها الصارخة لها اليوم على أرض فلسطين في "طوفان الأقصى" الذي وضع "إسرائيل" وللمرة الأولى تحت تهديد وجودي فعلي، ومهما تكن النتائج فإن ما قبل الطوفان لن يكون كما بعده على مستوى التداعيات المدمّرة للمشروع الصهيوني الذي يخوض اليوم أطول معركة له في سياق الصراع المستمر منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، ومن المرجح لهذه المعركة أن تستمر على الرغم من جرائم الإبادة اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومؤسساته ومقوّماته الحياتية، وهذا الواقع يدفع إلى إعادة النظر تاريخياً في تطوّر مسيرة المواجهة، وتعيين المحدّدات التي قادت الوضع إلى ما هو عليه من غلبة لمحور المقاومة على محور الشر الأمريكي – الصهيوني وحلفه العربي التابع له.
ففي السياق التاريخي نرى تزامناً لصيقاً بين بدء نكبة فلسطين والإعلان عن إنشاء الكيان الصهيوني في العام 1948 وبين الدعوة التي أطلقها الامام الخميني الراحل لمواجهة حكم الشاه محمد رضا بهلوي في إيران وإسقاطه كمقدمة لإقامة حكومة إسلامية ترفع شعار تحرير فلسطين وانتشال المسجد الأقصى والقدس الشريف من براثن الاحتلال الصهيوني، فقد عمل الخميني منذ ذلك الوقت على التنبيه من خطر هذا الكيان بشكل خاص ومن الصهيونية بشكل عام على فلسطين والقدس كما على العالمين العربي والإسلامي، فدعا الدول العربية والإسلامية إلى "الوحدة لطرد مادة الفساد إسرائيل لأنها لن تكتفي باحتلال بيت المقدس"، منطلقاً من الأهمية الدينية والمكانة المعنوية للمقدّسات الإسلامية والمسيحية على حد سواء.
ولم يمضِ وقت طويل حتى وقعت القدس التي كانت محجّة للمسلمين أسيرة الاحتلال الإسرائيلي، بعدما أسفرت ما سمّي بـ"حرب النكسة" أو حرب "الأيام الستة" التي اندلعت بين "إسرائيل" وكل من العراق ومصر وسوريا والأردن في العام 1967 عن هزيمة العرب، واحتلال "إسرائيل" لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، وتهجير معظم سكان مدن قناة السويس ومحافظة القنيطرة في سوريا، وعشرات الآلاف من الفلسطينيين من الضفة بما فيها محو قرى بأكملها، وفتح باب الاستيطان في القدس والضفة الغربية.
إن المسجد الأقصى والقدس يشكّلان محور القضية المركزية من منطلق الرباط العقدي والديني توازياً في الأهميّة والوجود مع الارتباط الجيوسياسي، فضلاً عن أن فلسطين هي بمثابة القلب في جسد الأمّة العربية والإسلامية، ولذا أطلق الامام الخميني يوم القدس العالمي، محدّداً إحيائه كل عام في آخر يوم جمعة من شهر رمضان، كمناسبة لإبقاء هذه القضية حاضرة في وجدان الأمّة في شقيها العربي والإسلامي، ولتكون محطة إجماع يلتقي حوله أبناء هذه الأمّة بعدما فرّقتهم السياسات والمصالح والتبعية للشرق والغرب، فعمل على زرع هذا الرباط في وجدان كل مسلم باتجاه تكريس واقع القدس قضيةً تتجاوز الحدود التاريخية والجغرافية لفلسطين، وتشكّل محطة جامعة يجتمع فيها المسلمون في وحدة شاملة تطال الشخصية المعنوية الفردية أولاً، ويشعر فيها كل فرد ثانياً بواجبه في الدفاع عنها والعمل على تحريرها من الاحتلال بالوسائل كافّة، وتسخير الطاقات المادية والمعنوية من أجل الحفاظ عليها كهوية جامعة، ولا تقف عند حدود ترجمة مفهوم الدّولة (الفلسطينية)، بل تكون مصداقاً لترجمة مفهوم الأمّة الإسلامية الواحدة في مواجهة الصهيونية التي تسعى إلى التمدّد والتوسّع.
لم يأتِ نداء الخميني في تحذيره للعرب والمسلمين من الخطر الصهيوني ناتجاً عن تطوّر مرحلي متعلّق بالظروف السياسية والعسكرية التي فرضتها القوى الغربية في مساعيها لاحتلال فلسطين، ولا في نتائج الحروب التي دارت رحاها على أرض فلسطين وأسفرت عن زرع الكيان الإسرائيلي فيها، بل تتّصل أساساً بإيران التي كانت واحدة من المواقع الاستراتيجية للغرب، فأعلن "يوم القدس العالمي" ، ليكون محطّةً متعدّدة الخلفيات والأهداف الدينية والسياسية، ومختلفة المعاني والتأثيرات، وكي يستنهض الشعوب كما الحكومات العربية والإسلامية، ويدفع بالأمّة إلى التحرّك والقيام بواجب الجهاد من أجل تحرير القدس وفلسطين، لذلك فإن هذا اليوم "يجب فيه أن نسعى جميعاً لإنقاذ القدس من براثن الصهاينة الغاصبين.. وهو لا يخص القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعفين للمستكبرين".
وبالنظر إلى ما جرى ويجري في فلسطين المحتلة من محطات نقف عند معطيين رئيسيين، الأول: أن فلسطين باتت نقطة الفصل بين معسكرين، أحدهما ينحاز بالمطلق نحو الغرب ويداهن "إسرائيل" ويسعى للتطبيع معها بكل قوته على حساب القضية المركزية (فلسطين)، حتى لو كان الثمن إبادة الشعب الفلسطيني أو تشريده وسلب هويته، وثانيهما ينحاز بالمطلق إلى محاربة محور الشر الأمريكي واستطاع أن يحقّق الكثير من الإنجازات بحيث وحّد الساحات تحت مظلة محور المقاومة.
أما المعطى الثاني: فإننا نستطيع وبكل ثقة أن نعدّ طوفان الأقصى نتيجةً طبيعةً لتراكم الإنجازات السياسية والميدانية، نتيجةً لالتقاء حركات المقاومة في المنطقة تحت شعار يوم القدس الذي يشكّل رافداً شاملاً في الإطار الوجداني والمعنوي وهدفاً استراتيجياً تعمل هذه الحركات لتحقيقه، ويضع "إسرائيل" ومشروع أمريكا يواجه مصيره الحتمي في الانكسار والزوال.