إحــيـــاء الإنـسـان والـوطـن بالـمـوسـيـقـى الـجـامـعـة الأنـطـونـيـّة : أمـسـية مـوسـيـقـيـة مـن الـتـقالـيـد الـعـربـيـة عـلـى مـسرحـهـا فـرع مـجدليّا – زغـرتا
بقلم د.جوزفين سلمان يمينيـشـيـر جـان بيـير غـينو - الكاتب والمؤرخ: "إن حـظـر الـمـوسـيـقـى يـعـنـي قـتـل الإنـسـانـية ومـعـها جمـيـع أشـكال الـفـكر أو الحـالـة الـذهـنـيـة أو الـديـن". أردف فـأكـتـب أن الـحـيـاة بـدون مـوسـيـقـى هـي بـبـسـاطـة خـطـأ مميـت : منـفـى مقـيـت.
الـمـوسـيقـى قـادرة عـلى الجـمع بـين المـدنـس والمـقـدس، الـمـؤمـنيـن وغـيـر الـمـؤمـنـيـن مـن جميـع الأنـواع : هـذه قـوتـهـا. الحـرية هـي أغـنية. عـنـدما يـتـم كـتم الـموسيقى، تـصـبح الـحـرية هـمـسًـا، تــرنيـمة، ابـتـهـالًا سـريـًا. الـمـوسـيـقـى هـي نـشـاط إنـسـانـي لـطـيـف يــستـخـدم وظـائـف الـدمـاغ عـن طـريـق التطور (الـلغـة عـلى وجـه الـخـصـوص). يـشـيـر بـعـض الـبـاحـثـن إلى أن المـوسيـقـى سـبـقـت ظـهـور الـوظـائـف الـمـعـرفـيـة الـمـتطـورة مـثـل اللـغـة الـواضـحـة.
بعـد إسـتــمـتـاعـي بالـمــوسـيـقـي المـشــرقـيـة التـي أقـيـمـت فـي قـلـب الجـامـعة الأنـطـونـيّة فـي زغـرتا، أردت أن اشــارك الـقـارءات والـقـراء بجمــالـيـات هـذه الأمسـيـة وأهـمـيـة المـوسيـقى فــي بنــاء الإنـسـان والـوطـن. الـمـتعـة الـمـوسـيـقـية تـدعـمـهـا هـيـاكـل دمـاغـيـة متـمـيـزة: الـذروة الـعـاطـفـية عـنـد وصـول حـدث مـوسـيـقـي حـاسـم، غـالـبـًا مـا تـرتـبـط بـإحـسـاس "الإثارة". تــتـمـيـز بـإطـلاق الـدوبـامـين (المخطط البطني والظهري). شـكل مـن أشـكال الـمـتـعة الاسـتـباقـيـة التي تـسـبـق هـذه الـذروة ، تـتـمـيـز بـزيـادة تـدريـجـيـة في نـشـاط الـنواة المذنـبـة. تـعـكـس مـتـعـة الـتـرقب هـذه بـنـيـة الـمـوسـيـقـى، الـتي يـعـتـمـد تعـبـيـرهـا الـعـاطـفـي بـشـكل أسـاسـي عـلى الـتـوقـعـات الإدراكـية، الـتي تـنـشـأ عـن تـنـاوب الـتوتـرات الـموسـيقـيـة والاسترخاء.
أحـيـت كـلـيّـة الـمـوسيـقـى وعـلـم الـمـوسـيـقى فـي الـجـامـعـة الأنـطـونـيـّة أمـسـيـة مـوسيـقـيـة من الـتقـالـيـد العـربـيـة عـلى مـسرح الـجـامـعـة الانـطـونـيـة فـرع مـجـدلـيـّا – زغـرتـا. غـصّ مـســرح الـجـامـعة الأنـطـونـيّـة، 19 كانـون الـثـانـي 2024 السـابـعـة مســاء، بـفـعالـيـات ثقـافـيـّة، فـنـيّة، روحـيّـة، سـياسـيـّة ومجـتـمع تـربـوي ومـدنـيّ. أتـت هـذه الأمـسـية تحـت شـعـار "طـرابـلس عـاصمة للـثقـافـة العـربيّـة للـعام 2024"، بـرعـاية وزيـر الـثـقافـة فـي حـكـومـة تـصريـف الأعـمال محـمـد وسـام الـمـرتـضى، مـمثـلا بـالمـحـامـي شـوقـي ســاسـين.
كلـفـت الـجـامـعـة الانـطـونـيـة فـي بيـروت الإعــلامـي روبيـر فـرنجـيه تـقـديـم هـذه الأمسـيـة المـوسيـقيـة الـذي عــرف بالخطبـاء مسـتعـرضـا النشــاطات التـي جتمـعـتـه بالـجـامـعـة الانـطـونـيـة – فـرع مـجـدلــيـا. وصـف الإعـلامـي الـصـديق روبيـر الـجـامـعـة الانـطـونـيـة مـجـدلـيـا بـالمــدللـة إذ أنـهـا الـوحـيـدة فـي منطـقـة زغـرتـا – الـزاويـة. رأى أن الـفـرقـة السـداسيـة - فـرقـة الـتـراث الـموسيقي العربـيّ - أنســت الحضـور مـآســي رقـم 6 في ذاكـرة اللبـنانيــات واللبنــانـيــن المـرتبـط ب 6 و 6 مــكــّرر. ثـم أضــاف أن الفـرقـة بالـعـزف وبـمــقـام الحجـاز إســتـطــاعـت إبـعـاد كـل النشــاز الإقتـصـادي، الإجـتـمـاعـي، السيـاسـي، التـربـوي عـن الـذاكـرة ولــو للـيلــة واحـدة.
إرتـجـل ببــراعــة وســلاســة مـمثـل وزيـر الـثـقافـة المـحـامـي شـوقـي ســاسـين كـلـمـتـه مشــددا عـلى أهـمـيـة المـوسيـقى والـثـقــافـة. يعـتـبر لـبـنـان مـن الـبـلدان المـنـفـتـحة عـلى ثـقـافـات المـجتـمـعـات وخـصـوصـا الـعـربيـة. كـمـا يتـمـيـز لـبـنـان وشـعـبـه بـالـكـرم الحـضـاري والـثــقــافـي. يتـمـيـز لـبـنـان - بـلـد الـحـب، الـجـمـال والـفـن - بتــعـدد ثـقـافـاتـه وتـنـوع حـضـاراتـه. شــدد المـحـامـي سـاسيـن أن الـثـقـافـة تـشــمل كـل لـبــنـان فـي سـيـاق فـعـالـيـات "طـرابـلـس عـاصـمـة للـثـقـافـة الـعـربـيـّة للعــام 2024" ولـيـس فـقـط طــرابـلــس وتـوأم روحـهـا زغــرتــا. بــل تمـتــد النــشــاطـات والإرث الـثـقــافـي مــن الأرز الـنـقـي لـتـطــال مـوج البـحـر.
الأب د. مـاجــد مــارون – مـديـر فـرع الـجـامـعـة الانـطـونـيـة في زغرتا - رحّــب بالحضـور مشــددا عـلى الدور الحـيــويّ والـحـقـيـقـيّ للـثـقـافــة فـي بـنـاء الـمـجـتـمـعــات الـمـتــرابـطـة والـمـتـعـاونـة. إذ إعـتـبـر أن الصـمـود فـي مـواجهــةَ الـقـمـع والـظلــم جـزءًا مـن الـثـقـافــة وقـيـمـهــا. يـستـخـدم الـصـمـود للـحــفـاظ عـلى الـهـويـّة، عـلى الـمـبـادئ، وللـتـصـدي للـظـروف الصـعـبـة بـشكـل فـرديّ وجـمـاعــيّ. اشــار إن "الـثـقـافـة هـي كـيـفـيـة نـظـر الانـســان إلـى الـحيـاة وإلـى الـعـالــم. هـذا الـمـفـهــوم قــريـب جــدا مـن مـفـهــوم الـحضـارة. الـحـق انه لـيـس بـالإمـكـان دومـا الـفـصل بـيـنـهما." رأى ان "دور الثـقـافـة فـي بـنـاء المـجـتـمـع يـسـاهــم في تـعـزيـز قـيـم الحـيـاة الـيـومـية، ويـعـد رافـدا مـهـمـا فـي تعـزيــز الــهـويــة والـتـعـايـش والـتـلاحــم الاجـتـمـاعــي"، لافـتـا "كـلـنـا أمـل ان تـكـون مـسـاهـمــتـنـا الثـقـافـيـة فـي هـذه الأمـسيــة تـعـزيـزا لـوحـدة الـثـقـافـة والصمـود والـتـعاضـد والـتـعـاون".
أحـيـت الأمـسـية فـرقـة الـتـراث الـموسيقي العربـيّ بـقـيـادة د. هـيـاف يـاسـيـن – رئـيـس قـسـم الـمـوسـيـقـى الـعـربـيـّة. تـألـّـفـت الـفـرقـة مـن د.هـيـاف يـاسـيـن فـي مـوقـع الـقـيـادة والـعـزف عـلى آلـة الـسنـطـور، ديـامــون-كـويـن شـعـيـا غـنـاء، فـيـرونـيـكا حـنـّوش عـزفًـا عـلى آلـة الكـمـنـجـة الـعـربـيّة، كـريـسـتـو العـلـمـاويّ غـنـاء وعـزفًـا عـلى آلـة الـعـود، ناجي الـعـريضيّ على آلة الرقّ وآنـدريـس الـتـرس عـلى آلـة الـدربـكّـة. مـقـتـطفـات الأمسـيـة تجـمـع روائـع الـمـوسيـقـى ، الشـعـر والـغـنــاء. شـمـل البـرنــامـج عـلـى أداء بـاقـة واسـعة مـن رواد المــوسـيـقـى فـي دول عربـيـّة مختلفة أمثال: عمر البطش، صالح عبد الحي، عامر خداج، حسيبة موشي ّ، وديع الصافي، نجاح سلام ، زكـي ناصيف. أضــافـت الـمـوسـيـقـى المـعـزوفـة فـي الأمـسـيـة شَـذَرَاتُ ذَهَـبٍ : قطع من ذَّهَبِ الصوت، الأداء والعـزف. وصلة من بيـاتـي الـدوكـاه ؛ وصـلة من حـجـاز الـدوكـاه؛ وصلة من مقام راست الرّاست؛ وصلة من مقام راست الجهاركاه؛ من مقام السيكاه أهزوجة: يا جار الرضا.
أدرك كـونـي أخـصــائـيـة فـي عـلـم النـفـس الـعـيـادي أن العلـوم المعرفـيـة للـمـوسـيـقى ركزت على تأثيرات الـمـوسـيـقـى عـامـة وخـصـوصـا عـلى عـمل الـدمـاغ لـدى الأشـخـاص الأصـحـاء والـمـرضـيـيـن. لــذا أعـرض فـي هـذا الـمـقـال الوضع الحالي لـهـذه الدراسات، وفـق ثـلاث محاور رئـيـسـية. أن الإنـسـان يستـفـيـد مـن الـمـعـدات الـبـيـولـوجـيـة الـمسـبقـة لـمـعالـجـة الـمـوسـيـقـى. مـن نـاحـية أخـرى كـيف تـتـمكـن الـمـوسيـقى مـن تحـفـيـز الـدمـاغ. المحـور الـثـانـي أود الإشــارة عـلى الـتـأثـيـرات الـمـفـيدة للاسـتـمـاع إلـى المــوسـيـقـى وإن أمـكــن مـمـارسـتـهـا عـلى الأداء الـمـعـرفـي الـغـيـر مـوسـيـقـي. تـم إظـهـار روابـط مـهـمـة بـين الـعـملـيـات الـمـوجـهـة بـالـمـوسـيـقـى والمـهـارات الـعـقـلـية الأخـرى. يـتـطلـب تـشـغـيـل الـمـوسـيـقـى أو الاسـتـمــاع إلـيـهـا جـوانـب مـخـتـلـفـة مـن الإدراك – أذكــر الانـتـباه، الذاكـرة، الـذاكـرة العـامـلـة، - والإدراك الـسـمـعـي وحـتى الـمـكـانـي، كـمـا الـمـهـارات الـحـركـيـة، فـضـلاً عـن الـشـبكـة الـعـاطـفـية. مـن خـلال تحـفـيـز أنـشـطـة الـدمـاغ الـمـختـلـفـة، تتـمـتـع الـمـوسيـقى بـإمـكانـيـة تـحـسيـن أداء الـمـهـام الغـيـر الـمـوسـيـقـية منـهـا الـسيـولـوجـيـة بـنـفس الـطـريـقـة الـبـيـولـوجـيـة. أمــا المحــور الــثــالـث يـتـنــاول الـعـمـل فـي الـمـجـالات الـسريـريـة - الـعـيـاديـة الـتـي إسـتخـدمـت الـمـوسـيـقـى كـوسـيـلـة لـعـلاج الإعـاقـات الإدراكـيـة أو الـحـركـيـة لآفـات الـدماغ. تـؤثـر الـمـوسـيـقـى عـلى عـمـل الـدماغ. يـتـم تـنـشـيـط دائـرة الـدمـاغ الـمـسؤولـة عـن الـمـتـعـة التي تـطـلـق مـواد كـيـمـيـائـيـة مـســؤولـة عـن الـشعـور بالـرفـاهـيـة واـلهـدوء.إذ يـعـمـل الإنـدورفـيـن كـمـضاد للاكـتـئـاب ويـخـفـف الألــم. الـدوبـامـين يجــعـلنا فـي مـزاج جـيـد. نـلاحـظ أيضًا انـخـفـاضًـا فـي هـرمـون الـتوتر الكورتـيـزول. عـلى الـمدى الـطـويـل، تـعـمـل الـمـوسـيـقـى عـلى زيـادة الـروابط بـين نـصفـي الدماغ لـديـنـا. ممـا يجـعـل الـتعـلـم والتـعـلـيم أســهـل.
تـشـكـل الـمـوسـيـقـى أداة تـحـفـيـز. يمكن تـفـسيـر تأثـيـراتـهـا عـلى مـسـتـويـات مـخـتـلـفـة. تـؤثـرالـمـوسـيـقـى عـلـى الـتـطـور الـمـعـرفـي والـعـاطـفـي والـحـركي للإنـسـان. تـسـاعـد فـي "تـحـويـل" الدمـاغ الـبـشـري أثـنـاء التـطـور. مـا يـفـسـر المـكانـة الـتـي تـحـتـلـهـا الـمـوسـيـقـى فـي الأنـشـطـة الـبـشريـة. بالإضافة إلى تقـديـم مـواقـف تعـزز الـوعـي والـتـحـفـيـز، يمكن استـثـمــار بعـض الـمـكونـات الـمـوسـيـقـيـة لـتحـفـيـز وظـائـف الـدمـاغ الـمـستـهدفـة بـشـكل أكـثـر تـحـديـدًا- إيـقـاع إنـتـاج الـحـركـة.
آلاف التــأثـيـرات للـمـوسـيـقـى : الموسيـقى الكلاسيكية، الجاز، الشعبية أو التكـنـو ... . كـل نـوع مـوسـيـقـى يـؤثـر عـلـى نفسـيـتـنـا وسـلـوكـنـا، من خـلال بث هـذا اللـحـن أو ذاك فـي المدرسة، فـي الجـامـعـة أو في صالة الألعاب الرياضية، ... .
أضـافــت أمـسيــة الـتـقـالـيـد الـمـوسـيـقـيـة العـربـية ؛ فـي الجـامـعـة الانـطـونـيـة بـكـلـيــّة الـمــوسيــقـى وعـلـم الـمـوسـيـقـى ؛ مــســاحـة كــونيـة فـي عـالـم المـوسـيـقـى، الـشـعـر، العـزف والـغـنـاء. أبـدعـت الكـلـيـّة بـفـن لا يـمـوت وهـو الـمــوسـيـقـى وعـلـمـهـا بسـحــرهــا وتـأثـيـرهـا اللـذيـن لا يـنـتـهـيـان. أمســيـة جـمـال، سـحـر وروعـة مـن بـعـد صـوفـيّ غـنـائـي نـحـن بـحـاجـة لـه فـي وسـط صـقـيـع الـوطــن.
نـعـم ساهـمـَت هـذه الأمـسـية فـي تـعـزيـز وحـدة الـثـقـافـة والـصـمـود، الـتـعـاضـد والـتـعـاون حـيـث ظـهـر الـعـمـل الدؤوب والمتواصل بيـن جـمـيـع شـركـاء المجـتـمـع الجـامـعـي لـخـدمـة الـعـلـم والـثـقـافــة والإنـســان فـي لـبـنـان.
جـوزفـيــن سـلمــان يـمــّـيـن
أخصـائـيـة فـي عـلـم النـفـس الـعـيـادي والـدعـم الإجتماعي - أخصـائـيـة فـي عــلـم تـعـلــيم الكــبــار (الانـدراغـوجـي)